مارلين مونرو.. مرارات القتل

مارلين مونرو.. مرارات القتل

04 اغسطس 2022
مارلين مونرو، تشرين الأول/ أكتوبر 1954 (Getty)
+ الخط -

استُرجعت سيرة وفاة النجمة مارلين مونرو بشريط سينمائي وثائقي: "لغز مارلين مونرو: الأشرطة غير المسموعة" (2022) الذي أضاف إلى العديد من الاستعادات السينمائية التي انشغلتْ بحياتها ونهايتها المأساوية، وكأنّ الفنانة الشابة لمّا تزل حيّة، في ذاكرة المُعجبين بها.

شكّل البحث عن حقيقة موتها في 4 آب/ أغسطس 1962 دافعاً أساسياً للاستعادة الجديدة، التي عملت أجهزة السلطة الحاكمة على حجبها، وإتلاف وثائقها، وتكميم أفواه من يريدون الكلام عنها. مضى على موتها أكثر من نصف قرن، ولم يبق على قيد الحياة أيٌّ من شهوده ومعاصريه. صعد إلى سماء هوليوود مئات النجوم الجُدد، وانطفأَ وهج المئات منهم. يموت مئات الضحايا ويكتمل اختناقُهم تحت التراب، وتبقى الجرائم التي خطفت حيواتهم حيّة ترفض الموت والتحلُّل، طالما بقي من يذكرُهم. موت مارلين مونرو، واحدٌ من دوافع التحرّي عن القتل المتعمّد، ونجاة المجرمين. 


إغلاق جميع الطرق 

لا تنتهي الاغتيالات، ولن تنتهي بزمن قريب. كأنّها فعلٌ متمّم لأبدية سلطات استبدادية لا تريد أن تندثر، ضحاياها قوافل من قادةٍ سياسيين ونقابيين وفنّانين متمرّدين.

من الصعوبة البرهان على دور الفرد المؤثّر في التاريخ، أو بالأحرى في حركة التاريخ، لكن يُمكن رصدُ أثره في مسيرة حزب أو حركة سياسية أو منظّمة مِهنية. من العبث البحث عن اغتيالات غيَّرت مجرى حركة تاريخية. يحضر دوماً من يذكّرنا بالقتلى بتنقيبٍ مُواظب جَسُور ليضعَ أمامنا النهايات المأساوية للمهدي بن بركة، وفرج الله الحلو وماجد أبو شرار وحسين مروة ومهدي عامل وسمير قصير.

تغيَّر الزمن، ولم يَعُد يحتاج القتَلة الى إخفاء جرائمهم، أو التستّر عليها، وغدا القتل نمطاً من أنماط المُراسَلة بين مراكز القوّة، وقد اقتفت منهج العصابات، التي حاز العديد منها على شرعية سلطوية وبات يشارك قادتها في البرلمانات، إذ لم تعد السلطات تتنكر لأبنائها غير الشرعيين، كما كانت تفعل في عصر الإقطاع الآفل.

هيمن إعلام التطبيع مع القتل والمجرمين، وروّج لمنهجِه بعشرات المسلسلات والأفلام التي حوّلت القتلة والمجرمين إلى نجوم، ارتقت بهم إلى صفوف الملائكة، كمساهمة لتقريبهم من وجدان الناس، وأسبغ عليهم الجمال الجسدي المتماوج مع عواطفَ ناعمة، واختلاجات حمّى تظهر كطفحٍ جلدي ينبئُ بصحوة متلعثمةٍ لهذيانات وطنية تارة، ودينية تارة أخرى. لم يعد المجرمون يكترثون بتقديم أسبابٍ لجرائمهم، ويتجنّبون ذاك الهزل، الذي لا يناسب دراما الحِداد.

بتقديمهم جثة المنتحر بعد إطلاق ثلاث طلقات على صدغه، أو برمي نفسه من شرفة بيته، حتى لو كان يسكنُ الطابق الأوّل أو الأرضي، أو يتهاوى من الطابق العاشر دون أن يبقى أثر للدم أو تحطُّم العظام كحال الفنانة سعاد حسني، أو بدهسِ قطار توقّفت عرباته عن المرور من الحرب العالمية الثانية.

ولاستكمال مظاهر الاستهتار، جرى عرض القتل بمشاهد حيّة أمام كاميرات التلفزيون ليتابعها الناس كما يتابعون برنامج مسابقات غنائية. اغتيال الرئيس الجزائري محمد بوضياف ورئيسة الوزراء الباكستانية بنازير بوتو. استهتارُ المجرمين بالعدالة، بات المنهج في القتل، يتمّمُه إغلاق جميع الطرق التي تؤدّي إلى كشف المجرمين. 


أنا لست يتيمة

عاشت نورما جين الاسم الحقيقي لمارلين مونرو، حياةً مضطربةً، كافحت أمّها غلاديس لتعويض غياب الأب الذي بقي مجهولاً، لا للطفلة فحسب وإنما للأم كذلك، التي كانت قد أقامت علاقاتٍ مع العديد من الرجال قبل ظهور حملِها بابنتها نورما. استعاضت عنها الطفلة بتعلُّقها بصورة نجم هوليوود كلارك غيبل التي أطرّتها الأم وعلّقتها على جدار غرفة المعيشة، وأوهمت طفلتها أنّها صورة أبيها الغائب.

لم يَسمح وقتُ عمل الأم الطويل برؤية ابنتِها، واضطرّها إلى وضعِها تحت رعاية أُسرة بديلة، مقابل أُجرة أسبوعية. تبدّلت على رعايتها أُسَر عدّة، وتخلّل ذلك إقامات متكرّرة في دار الأيتام. تجاهل العالم المحيط نداءاتها الصاخبة "أنا لست يتيمة. لي أمّ أنهكها العمل، وأب لا يبارح الصورة المعلّقة على الجدار".

عانت والدتُها من مرضٍ عقلي أتلفَ دماغها، نتجَ من عملها كمساعدة بقسم المونتاج باستوديوهات "شركة كولومبيا"، واستعمالها اليومي لموادَّ كيميائية سامةٍ، تُستخدم بعمليات تظهير الأفلام، واستنشاقها الأبخرة من قوارير الموادّ الكيميائية، والموادّ اللاصقة التي تُستعمل لوصل شرائط الأفلام. نُقلت بعد معاناة مريرة إلى مصحٍّ عقلي لازمته طيلة حياتها.

تزوّجت نورما بعمر مبكّر من شاب يعمل مدرّباً لبحّارة الأسطول التجاري، نُقل بعد أشهر من زواجهما إلى قاعدة في أستراليا، أي على الجانب الآخر من الكرة الأرضية، وكان ذلك أحد أسباب طلبها للطلاق. دخلت عالم السينما بأدوار ثانوية، سرعان ما لفتت فيها انتباه المخرجين والمنتجين، الذين أسندوا لها أدوار بطولة. ثم تكرّرت بعد ذلك زيجاتُها إلّا أنّ أيّأً منها لم يستمرّ طويلاً؛ من جو ديماجيو أشهر لاعب بيسبول بأميركا، والكاتب المسرحي آرثر ميلر. صعد نجمُها سريعاً في عالم السينما وارتفعَ أجرُها، وتحوّلت إلى نجمةِ شبّاك وشخصية عامّة. أخفى بريقُ جمالها المضيء، عذاباتها العميقة الآتية من طفولتها. نقلتها نجوميتها للاحتكاك بالنخبة السياسية والإعلامية الأميركية، وأمست عالمها البديل الجديد، الذي حلّ محلّ العائلات البديلة ودُور الأيتام، التي نشأت فيها.

أسرّت يوماً لإحدى صديقاتها أنها دخلت علاقة جديدة، وأطلقت على عشيقها اسم الجنرال، وهو الاسم الذي يُطلق في وزارة العدل الأميركية على المدعي العام روبرت كينيدي، أقامت بعدها علاقة مع شقيقه الرئيس الأميركي جون كينيدي. الرجلان اللذان التزما بوصية والدهما، وهو يعدّهما منهجياً ليحرسا قيم "أعرق" ديمقراطية في العالم: "مارِسا الجنس قدر المستطاع مع العدد الذي يريدانه من النساء".


الأخوان كينيدي 

أدّت الصراعات السياسية إلى دعوة المدّعي العام روبرت كينيدي إلى استجواب جيمي هوفا زعيم اتحاد سائقي الشاحنات في الولايات المتّحدة، الشهير بفساده، ونفوذه الهائل، وارتباطه بالمافيا. وأربكه بالأسئلة بمواجهته بتهديدات القتل التي يمارسها على خصومه.

طلب بعدها هوفا من المحقّق الخاص فريد أوتاش، جمع ملفٍّ مهين عن الأخوين كينيدي وعلاقتهما بمارلين مونرو. تمكّن رجال أوتاش من التسلّل الى بيتها، وزرعوا أجهزة التنصّت بغُرفهِ بما فيها غرفةُ نومها وهاتفها. تابعوا من خلالها تسجيل أحاديثها مع الأخوين كينيدي، وأصواتهم في غرفة النوم. عَلِقت الفنانة الشابة، التي بلا حماية، بشبكةٍ جمعت "مكتب التحقيقات الفيدرالي" و"المكتب الرئاسي" في البيت الأبيض، والمافيا.

وُجِدت مونرو ميّتة في فراشها، وفي يدها سمّاعةُ الهاتف، وبقربها عبوة حبوب منوِّمة. هاتفَت مدبّرةُ المنزل الدكتور غرينسون الذي يُشرِف على علاجها، وأبلغته أنّ غرفة مارلين ما تزال مضاءةً، ولا تردّ على النداءات وبابها مغلقٌ. حضر الدكتور في الثالثة فجراً وكسر زجاج النافذة ووجدها ميّتة في فراشها. لكنّ الحقيقة التي وصل إليها محقّق الفيلم توني سمرز غير ذلك.

لقد نقلتها سيارة إسعاف من المنزل إلى المشفى في العاشرة ليلاً وكانت مارلين حيّة. بهذا الزمن الفاصل بين نقلها إلى المشفى وإعادتها، تسلّل رجال فريد أوتاش إلى المنزل ونزعوا كلّ الدلائل التي تدين الأخوين كينيدي، حيث كان روبرت كينيدي معها في البيت قبل موتها بساعات، ووقعت بينهما مشادّة عنيفة، اضطرّت حرّاسه إلى التدخّل لفضّها. ما سيبقى من هذه المشادّة عبارة واحدة "أنا لست قطعة لحم".

لم يُترك أي دليل مادي يشير الى قتلها. توافقت النخبة السياسية والمخابراتية والمافياوية، على إخفاء جميع الضغوط التي أوصلتها الى الموت. 


* كاتب من سورية

الأرشيف
التحديثات الحية

المساهمون