لا كتابة بلا آخَر

لا كتابة بلا آخَر

06 أكتوبر 2023
كولاج لعلي صلاح بلداوي/ العراق
+ الخط -

كتب شتيلر، وهو الشخصية الرئيسية في رواية الألماني ماكس فريش التي أخذت اسمه عنواناً لها، وصدرت عن دارَي "سرد" و"ممدوح عدوان" بترجمة سمير جريس: "أعتقد أنه لا توجد كتابة دون تصوّر أن أحداً ما سيقرؤها، حتى لو كان هذا الأحد هو الكاتب نفسه"، وهي حقيقة تتأكّد يوماً بعد آخر في عالَم الكتابة، على الرغم من ازدياد عدد المُشكّكين في جدوى الكتابة.

والتشكيك بضاعة يمتهنها الخاسرون في المشاريع كافة، المشاريع السياسية، والاجتماعية، والنضالية الثورية، والحالمون والفاشلون في الحبّ، وغيرهم كثير، على الرغم من أن جميع المشكّكين في جدوى الكتابة يسعون لإيصال هذه الفكرة، أي فكرة عدم الجدوى من الكتابة، كتابةً، عبر الصحف، أو المجلّات، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

الكتابة هي فعل تواصُل، وخطاب، وتقرير، يسبق القراءة، بوصفها فعل التلقّي، ولا يكتمل بدونه. في الكتابة يُضمر الكاتب وجود العشرات، أو المئات، أو الآلاف من البشر الذين يفكّر أنهم سوف يقرؤون ما يكتب، وفي القراءة ثمّة علاقة مُفردة بين قارئ فرد والكاتب. ولكنّ الكاتب لن يكتب إذا لم يجد أو يتخيّل قارئاً. والجدوى هي الأثر الذي تتركه الكتابة.

نكتب كي نُقرأ أوّلاً، ففي القراءة وحدها تتجلّى فكرة الكتابة

لماذا تكتب؟ الافتراض المُسبَق الأول هو أننا نكتب لأن ثمّة من سيقرأ هذه الكلمة المكتوبة، أي أننا لا نكتب لأنفسنا، كما يدّعي شتيلر، وثمّة مَن قال إنه أراد مِن الكتابة توضيح الفكرة، أيّ فكرة، لنفسه وبنفسه، ولكنّنا قرأنا التوضيح في النهاية. والثاني هو أن الكلمات التي نكتبها سوف تترك أثراً ما: المتعة مثلاً؟ لم لا؟ ومَن قال إننا لا نحتاج للمتعة؟ الغاية والهدف أيضاً، ونحن نرغب دائماً في إيصال فكرة ما عن تصوُّرنا أو إيماننا بالحرّية، والعدالة، والقمع، والثورات، أو حتى عن رغبتنا في تقديم معرفة ومنفعة في الكتابة عن فوائد التفّاح، والعنب، أو زهرة البابونج، وبالقدر نفسه نرغب في التحذير من أضرار المخدّرات.

واختراع وسائل التواصل الاجتماعي زاد من حضور العلاقة بين الكتابة والقراءة، أو القارئ، أو بين الكتابة والأثر، لا يكتب أيُّ مُشترِك كلمة واحدة على حسابه في أيِّ وسيلة، دون أن يضع في ذهنه قارئاً ما، بل مجموعة من القرّاء تبلغ خمسة آلاف في فيسبوك مثلاً. ولهذا يُلاحق المشتركون التفاعُلات، وهم يرغبون في أن يتركوا أثراً ما في عقول قُرّائهم، أو وجدانهم، أو ذائقتهم الجمالية، وكلّما ازداد عدد المتفاعلين، زاد إيمان "الكاتب" بقُدرة الكلمة المكتوبة على تحقيق الهدف.

وتمتلئ صفحات وسائل التواصل اليوم بالمطالب والشعارات التي تعرض أمام آلات التصوير كي تقرأ على أوسع نطاق، لا تكتفي الساحة المنتفضة، أو الشوارع، من قبل، بمن يراها مباشرة، بل ترغب في إيصال الفكرة للقراءة من قبل جمهور افتراضي آخر. لماذا نكتب إذاً؟ نكتب كي نقرأ أوّلاً، وفي القراءة وحدها تتجلّى فكرة الكتابة، إذ لا كتابة بلا آخَر، أي بلا قارئ.

قال إدواردو غاليانو إنه أراد من كتابه " كرة القدم في الشمس والظلّ" أن يفقد محبّو القراءة خوفهم من كرة القدم، وأن يفقد محبّو كرة القدم خوفهم من الكتب.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
 

المساهمون