شمعون بيريز في غسّالة "نتفليكس": كيف تُخبر قصّة كاذبة

شمعون بيريز في غسّالة "نتفليكس": كيف تُخبر قصّة كاذبة

10 سبتمبر 2022
أمام قبور 105 مدنيين قضوا في مجزرة قانا التي أشرف على ارتكابها بيريز في 1996 (Getty)
+ الخط -

يبدأ الفليم الوثائقي، باهظ الكلفة، بمشاهد وحوارات عدّة، تقول في أحدها المغنية الأميركية باربرا سترايسند: "كان بيريز معطاءً، ولم يأخذ شيئاً في المقابل"، مُتحدثةً عن كرمه في العطاء لدولة الاستعمار الاستيطاني، ولكنّ قانون حفظ الطاقة يجيبها هُنا، لأنه كان بتحقيقه لـ"حلمه" يسلب أحلاماً كثيرة أخرى من الشعب الذي شارك في تهجيره وقتله.

يركن فيلم "واصل الحلم: حياة وإرث شمعون بيريز" (نتفليكس) إلى استخدام تقنية رواية القصص غير الخطية أو بناءً على حالة من الوعي الإيقاعي لمجموعة من الأحداث في تاريخه وتاريخ دولة الاستعمار الاستيطاني، بما يتناسب مع السردية التي يحاول المخرج إيصالها، وباستخدام صوت راوٍ يألفه الناس: الممثل جورج كلوني. 

تبدو القصة من بعيد مثل قصص النجاح على موقع "لينكد إن"، أو مثل قصص نجاح أبناء مَيْسوري الحال: "بدأت مشروعي الخاصّ، وما كان معي ولا ملّيم، ولكنّي قدرت أجمع من عيلتي 3 ملايين دولار، والحمد لله نجحت". أو: "أنا رسبت بالجامعة، وما حدا رضي يوظفني، ولكنّي الآن صرت مدير شركة، وإذا أنا عملت هيك، أنت بتقدر تعمل هيك". في القصّة الأولى، يظهر لك الشخص بمنظر المكافح الذي صار عصامياً بعيداً عن أهله، ولكنّه مسنود بهم وبدعمهم وبنفوذهم وبعلاقاتهم. وفي القصّة الثانية، يتّخذ الكاتب من عدم حديثه عن الفجوة بين فشله ونجاحه طريقة للتعبير عن المعجزات التي حصلت معه، والتي في غالبها تشبه الحالة الأولى.

يميل اتخاذ الأسلوب السردي القائم على الوعي الإيقاعي بعيداً عن المبنى الأرسطي للرواية لأن يكون صعباً، واعتماده في الفنون البصرية أصعب، إذ يتطلّب من القاصّ صناعة بنية كاملة غير خطّية، ولكنّها تحافظ في الوقت نفسه على شكل القصة، وتروي حدثاً، أو أحداثاً يخرج منها القارئ ــ المشاهد مشدوهاً.

محتوى استعماري وصهيوني تبثّه نتفليكس إلى ملايين البيوت

وتسمح هذه التقنية لمتبنّيها بالقفز على كثير من النقاط، إذ لم يرها تضرب على إيقاع القصة التي يحاول روايتها، خصوصاً تلك ذات العلاقة السببية، وهو ما يؤدّي في النهاية إلى قصة مبتورة غير ذات معنى، مثل قصّة صاحبنا الذي فشل ثم نجح، دون أية إشارة إلى الأدوات أو العقبات وكيفية تجاوزها.

ولهذا، كان اللجوء إلى هذه التقنية السردية في هذا الفيلم، هروباً من المُسبّبات، وهروباً من تراتبية الأحداث، حيث تبدو "إسرائيل"، هنا، دولة حالمة، تهرب من إرث أوروبا؛ يُشبّهونها كثيراً بالولايات المُتحدة الأميركية خلال الفيلم، وتحاول أن تصنع مجدها في البراري، في أرض قحط، مُحاطة بالأعداء، وحدها، دون دعمٍ ودون نفوذ، إلّا أنها تمكّنت من الذبّ عن بيضتها، وقدرت على "تهريب الطائرات" من نيويورك ــ بقدراتها المتواضعة ــ إلى فلسطين.

لا يوجد ذكرٌ لأهل البلاد الأصليين، ولا يوجد سياق يُموضِع الفيلم تاريخياً، فالتاريخ يبدأ حسب الفيلم منذ لحظة إعلان قيام "دولة إسرائيل"، وهذا الإعلان يجبّ ما قبله، بعنجهية بيضاء، تقول للعالم: اعترفوا بنا، ولن نذهب.

يروي الفيلم قصّة فردٍ، تعلّم من "الأب المؤسّس"، وساهم في صناعة شكل "إسرائيل" اليوم، بقدراته الفردية، لا بمساعدة من سياقهِ. حتى إن الفيلم يؤكّد أن كل العالم كان يتآمر على بيريز، غير المتعلّم، وغير العسكريّ، في مؤسّسة تحتشد بالمتعلّمين وأصحاب الرتب العسكرية، إلّا أنه تمكّن بقوّة إرادته من مجابهتهم كُلهم، وصناعة إرث دولة "إسرائيل" بعلاقاته.

يذهب صوت جورج كلوني، المُغوي، ليقول لك إن "إسرائيل" تمكّنت بفعل مناورات كثيفة، وبخداعها للعالم، من بناء مفاعل نووي يكلف مئات ملايين الدولارات، ويرويها لك وكأن بيريز يحاول أن يخترع جهاز "أبّل" في كراج أبيه، دون أن يظهر الامتداد التاريخي للصهيونية في أوروبا، التي راهنت على دعم فرنسا، ومعاداتها للدول العربية، خصوصاً بعد تأميم عبد الناصر لقناة السويس؛ وهنا يأتي الفشل الذريع للفيلم، فهو وإن كان قد أخفى العلاقات السببية في طرد الفلسطينيين وتهجيرهم، إلّا أنه لم يتمكن من إخفاء امتداد الاستعمار الأبيض في فلسطين إلى أوروبا وأميركا.

ويأتي التشبيه بين دولة الكيان والولايات المُتحدة مُتكرّراً في الفيلم، في محاول لاستمالة نفوذ شرطة العالم لصالحها، رابطاً بين الحلم والديمقراطية، وبين بناء مجموعة من المهاجرين لدولة راشدة راسخة، ويكون الربط مستمرّاً بين مصلحتيهما، ويأتي هذا الربط كثيراً في الآونة الأخيرة، خصوصاً في سياق تشبيه صعود اليمين وشروره في "إسرائيل" وفي الولايات المُتّحدة، وأن الدولتين تمرّان بمأزق ديمقراطيّ، وأن عليهما صيانته، لكي لا تسوء الصُورة أكثر. أو على الأقل، حتى يكون الكذب أسهل. تمرّ الدولتان بمأزق ــ لا جدال في ذلك، ولم يعد الكذب، ولا كلّ التفسير الإعلامي، قادراً على مواراة سَوْءات "إسرائيل".

تُشاهد الفيلم وكأنك تشاهد قصّة عاشق يحاول الوصول إلى محبوبته، يُحارب القبيلة، وينتصر؛ يتحدّث عنه فرداً، تجربة فردية، في سباقٍ رأسماليّ، والوصول للأقدر على الكذب، وعلى المواراة، وعلى التلاعب، وعلى استغلال العلاقات. هكذا يتحوّل واحدٌ من أعتى رؤوس قوى الشر في العالم إلى رجل معطاء، ولو لم تكن حذراً، ستبكي عند نقطة وفاة زوجته بعيدةً عنه، حيث اختار الرئاسة فوق العائلة، ليُصَدَّر بيريز لك على أنه رجل متفانٍ، يختار الحُلم والدولة دائماً.

تُقدّم "نتفليكس" للمُشاهد العالمي هذه المشاهد المبتورة ضمن فسيفساء كاملة تخدم "الهسبرة" الصهيونية، يكون فيها الفلسطيني إرهابياً، ويكون فيها الصهيوني صانع سلام وحلم، حيث يُعطى المنصّة ليتحدّث بحرّيته الكاملة، بكلماته، بهندسته، بموسيقاه، بطريقتهِ.

يصدّر الفيلم مجرم حربٍ على أنه متفانٍ ومثال للنجاح

وتدّعي "نتفليكس" أنها تُعطي المنصة نفسها للأفلام والمسلسلات الفلسطينية. ولكنْ بمراجعة سريعة، أو بطيئة، ستجد أن الأعمال الفلسطينية قُد صُمّمت لتُعجب الأبيض فقط، فهي بالكاد تشير إلى فلسطين، وإنْ فعلت، تستخدم مصطلحاتٍ التفافية، غير كاشفة، وتخضع لإملاءات المموّلين والمنتجين. 

يتحدث بيريز، في وثائقي "نتفليكس"، عن "أرض إسرائيل" كاملة، يتحدث عن احتلال دولة الاستعمار الاستيطاني لمصر، وللجولان، يتحدث عن مخالفة القوانين الدولية، بكل أريحية، فيما تغيب صُورة "فلسطين الكاملة" على المنصة في الأعمال الفلسطينية، ويكون الحديث بقطع صغيرة، تتحدّث عن أفراد لا عن مُجتمعات، عن مشاكل فردية، لا عن سردية، عن صورة ضحية، لا عن صُورة المُحارب من أجل الحُرّية، وبهذا، تكون فلسطين على منصة "نتفليكس"، هي فلسطين المُفصّلة على مقاس "إسرائيل" ومقاس "هسبرتها".


* كاتب من فلسطين

المساهمون