ذكرى ميلاد: حمزة علاء الدين.. موسيقيُّ النوبة الذي ارتادَ كلّ أُفق

ذكرى ميلاد: حمزة علاء الدين.. موسيقيُّ النوبة الذي ارتادَ كلّ أُفق

10 يوليو 2022
حمزة علاء الدين في حفل "أغاني الصوفيين"، نيويورك 6 أيار/ مايو 2005 (Getty)
+ الخط -

تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، العاشر من تموز/ يوليو ذكرى ميلاد عازف العود النوبي حمزة علاء الدين (1929 - 2006).



المكان حيّ المنيرة في القاهرة، الزمان أواخر ثلاثينيَّات القرن الماضي، حيث ستقع كلمات مالئة الدنيا وشاغلة الناس (أم  كلثوم)، في مسامِع فتىً صغير من النُّوبة هو حمزة علاء الدين، وسيكون هذا أول صلة له بالموسيقى.

بعد ثلاثين عاماً من ذلك التَّاريخ، سيرحل الموسيقار محمّد القصبجي (1966) عن عالمنا، ويُشاع أنّ كرسيَّه الشاغر عُرض على علاء الدين، بعد أن ذاع صيت نبوغه في العزف على آلة العود. لكنّه أحجمَ عن القبول، وآثرَ شغفَ الرحلة التي كان قد بدأَها، سابحاً في فضاء ممتدّ من توشكى في الرِّيفِ النُّوبي إلى أضواء روما وطوكيو وسان فرانسيسكو العالمية.

وُلدَ حمزة علاء الدين في مثل هذا اليوم عام 1929 في قرية توشكى بوادي حلفا في مصر، وسرعانَ ما حملَ إرثَ النُّوبة في كيانِه، وكأنّ معاني المكان قد سكنت روحه. فكلمة توشكى النوبية تنقسم إلى كلمتين: "توش" أي نبتة الغبيرة العِطريّة، و"كى" التي تعني المكان والموطن.

بقيتِ القاهرة تُشكّل لحظة الوعي الصادمة في سيرة من يرتَحلُ إليها، إنّها الزَّمان والمكان الصَّلب، الذي يُمارس لُعبة "البيضة والحجر" بحقّ المُنسَربين إليها من كلٍّ هامش. وسواء ارتطم الأوّل بالثاني أو العكس فالنتيجة واحدة، ولنا في سيرة "كوكب الشرق" خير مثال، والتحوّلات التي خضعت لها في مسارها الفني بعد انتقالها إلى القاهرة. فهل سيستَطيعُ فتىً قادم من أقاصي أسوان أن يتجاوز تلك النتيجة دون أن يحتكم لشروط اللعبة؟ وهو يحمل وعي جيلٍ مُختلفٍ عن جيل الروَّاد المؤسِّسين: عبد الوهاب وفريد الأطرش وزكريَّا أحمد ورياض السنباطي.

رثى قريته بعد أن ابتلعتها مياه السد العالي بأغنية "أسرمسو" 

بدأ علاء الدين رحلته القاهرية بدراسة الموسيقى في "معهد إبراهيم شفيق"، ومن ثم "معهد الملك فؤاد". ورغم تخرجه من "كليَّة الهندسة الكَهربائية"، وحصوله على وظيفة في "السكة حديد" عام 1948، إلا أن طموحه قاده إلى أماكنَ أبعدَ من حُجرات تلقيم الفحم، مع ذلك لم يكُنِ الانقياد إلى العمل بالفنّ أمراً سهلاً.

ومثل تخلّيه عن حلم والده الرتيب في دراسة الهندسة الكهربائية، سيكتشف علاء الدين أن الفن ليس كلّه مُكرَّساً للإبداع والانفتاح على الفَرح، بل فيه قسطٌ كبير من المَنعِ والرقابة والأوامر، إذ شكَّل رفض "الإذاعة المصرية" بثَّ أغانٍ نوبية صدمةً سيرتدُّ عنها علاء الدِّين، ليقرّر الانطلاق إلى العاصمة السودانية الخرطوم، ويعمل هناك مُستشاراً لـ"الإذاعة السودانية" في أواسط الخمسينيات.

لم يطل به المكوث في الخرطوم، فسرعان ما سافر إلى معهد "سانتا سيسيليا" في روما، مُتحصِّلاً على منحة لدراسة الموسيقى، ثم انتقل مطلعَ الستينيات إلى نيويورك، تلك المدينة العالمية الأرحب والأوسع. ولمّا قُيّضت له عودة إلى النوبة عام 1965 تلمَّسَ آثار قريته توشكى، لكنّها كانت قد غادرت العالم الذي يعرف، وباتت أثراً بعد عين، إذ ابتلعَتها مياهُ السدّ العالي. ليرثيَها بأغنية "أسَّرمسو" التي صارت بمثابة بيان، إن جازت التسمية، لكل المُهجَّرين عن أوطان غريقة.

وفي عقد الستينيات بدأ علاء الدين بإصدار أعماله بشكلٍ متواتر فأطلق ألبومه الأوّل الذي حمل عنوان "موسيقى النوبة" (1964)، ثمّ أتبعه بعملين: "العود" (1965) و"إسكاليه" (1968).

يتحدث الكاتب السوداني، صلاح شعيب، في مقال له بعنوان "ثمة ذاكرة وإيقاعُ طار ونغم نوبي"، عن نوع من الاعتراف في مقاييس نوبل الأدبية والعلمية بأسماء مثل وولي سوينكا، ونجيب محفوظ، وتشينو أتشيبي. كذلك في المقابل استطاعت أسماء مثل المالي علي فركا توري، وحمزة علاء الدين، أن تقدّم موسيقى أفريقية عالمية معترفاً بها.

نستطيع أن نُسائلَ هذا "الاعتراف" ومدى براغماتيَّته طبعاً، في حِقبة الاحتفاء بالهويات المحلية، وكيفية مجابهة الخطابات المَركزيّة التي تُمارِس بدورها ألاعيبَ "الغالب والمغلوب"، فالجوائز العالمية لا تعدو أن تكون مُنصبَّة في سياق بعيد عن المركزة. كما نستطيع أن نعمّق المساءلة أكثر، ونصوّبها نحو مجتمعاتنا التي يعسر عليها اكتشاف ذواتها المختلفة، في ظلّ أزمات التهميش والطبقية بما تحملانه من منع ورقابة.

بالعودة إلى مسيرة صاحب "كسوف" (1987)، نجد أنّ عقدَي الثمانينيات والتسعينيات حقّقا له الاشتغال الأكاديمي المميّز، حيثُ عملَ أُستاذاً للموسيقى العِرقية ما بين 1980 إلى 1990 في أكثر من جامعة أميركية منها "أوهايو" و"واشنطن" و"تكساس"، كما تمكّن من الإقامة في اليابان بوصفه مُدرّساً وباحثاً مُقارناً في أوجُه الشبه التي تجمع الآلات في الموسيقى الشرقية. وفي هذه المرحلة أصدر أشهر أعماله "ورد النيل" (1995) و"موشّح" (1996)، وختاماً بألبومه الأخير "أُمنية" (1999).

رحل حمزة علاء الدين بكاليفورنيا في أميركا عام 2006، بعد مسيرة طويلة جمعَ فيها الاحتراف بالشغف، والمحلّية بالعالمية. ويمكنُ تلخيصها بمقولة للموسيقي اللبناني منصور الرَّحباني عندما تحدّث عن رحلته مع أخيه عاصي قائلًا: "كتبنا لُبنانَنا بالذات، وَكَتبْنا أشواقَنا... واكتشفْنا أنَّ المَحلِّية هي أوَّل الطَّريق إلى اختراقِ كلّ أُفق، وإلى الإنسانيَّة جمعاء". وهذا بالفعل ما ينطبق على حمزة علاء الدين الذي انطلقَ من ذاتهِ وشوقِه واستطاع بمحلّيته أن يخترق كلّ أُفق.

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون