حركة "التفكير خارج الصندوق": اضطرابات ما بعد الحداثة

حركة "التفكير خارج الصندوق": اضطرابات ما بعد الحداثة

05 فبراير 2021
من أحد تجمّعات حركة "التفكير خارج الصندوق"، شتوتغارت 2020 (Getty)
+ الخط -

نشرت جامعة بازل في سويسرا في الفترة الماضية دراسة بحثية بعنوان "البنية الاجتماعية - السياسيّة لمظاهرات كورونا"، موزّعة على 63 صفحة، تتناول حركة Querdenken أو حركة "التفكير خارج الصندوق" الصاعدة حديثًا. دُرِّسَ البحث في سيمينار حول نظريّة "النقد الاجتماعي" ومدرسة فرانكفورت في جامعة هومبولت في برلين أيضًا، وأثار الكثير من الجدل النظري. جُهّزَت المعطيات في الدراسة بطريقتين: تحقيقاتٌ ميدانية في المدن الألمانية التي تشهد مظاهرات للحركة كـ لايبزغ وكونستانز، ومقابلات مع أكثر من 1150 شخصًا من السويد وألمانيا عبر تطبيق "تيلغرام". كلّ المستطلعة آراؤهم ناشطون أو أعضاء في الحركة المنتشرة في الدول الناطقة بالألمانية، والتي أظهرت مواقفها علنًا بأنّها لا تؤمن بوجود فيروس كورونا، وتقف بشكل حاسمٍ ضد الإجراءات المتّبعة من أجل الوقاية.   

أظهرت البيانات أنّ غالبية أعضاء الحركة يبلغون 40 عامًا وما فوق، لكنّ النقطة الصادمة هي أنَّ قسمًا لا بأس به منهم ينحدرون من الطبقة الوسطى مع خلفيات أكاديمية متنوّعة. الاتجاه الذي يمكن أن يسمّى بـ "الباطني" في التفكير كان واضحًا لدى كلّ أفراد العينة. نزعة الإيمان بأفكار مثل: قوة الطبيعة، واتخاذها قرارات مركزية عامّة، وقدرتها على الشفاء الذاتي دون التدخل البشريّ المعطِّل، لا تُخفَى على قارئ الدراسة. 

من النقاط المثيرة للاهتمام أيضًا إثارة قضيّة الأطفال في أزمة الفيروس، إذ كتبَت لافتة في مظاهرة للحركة في مدينة كونستانز: "الأقنعة هي إساءة معاملة للأطفال".


سحر "البديل"
أعضاء الحركة يشككون بشكلٍ مطلق في كلّ شيءٍ يمتّ بصلة إلى السلطة الرسمية، وانتشار نظريات المؤامرة واضح. يقدّسون كلمة "البديل"، الطب البديل والسلطة البديلة والمجتمع البديل والعلم البديل والدولة البديلة. القناع مثلاً يُعتبَر ارتداؤه لدى أعضاء الحركة رمزًا للعبودية السياسية للسلطة المهيمنة. 

في أميركا، تعرّض القناع لنفس الدرجة من التسيُّس، فإذا ارتديته أنت ديمقراطي، وإذا لم ترتده أنت جمهوري. كما أنّ مستوى التشكيك عالٍ في كلّ المعرفة الطبية الحالية، والحل هو الطب البديل، المنسجم مع روح الطبيعة ("منا وفينا" كما يقول المثل الشامي)، مقابل الطب التقليدي المتشابك مع شركات صناعة الأدويّة والأسلحة. باختصار: كلّ شيء يصدر عن السائد هو باطل.

 
نقاد اجتماعيّون
من جهة أخرى، لبعض أعضاء الجماعة ردودٌ فكريّة متماسكة، بل يصفون بأنفسهم بأنّهم "نقاد اجتماعيون" لا يقبلون اتّهام عدم الإيمان بالتفكير العلمي. التشكيك هو حصرًا في المعرفة العلميّة التي يتمّ إنتاجها وإعادة إنتاجها في ظلّ المنظومة السائدة. 

النظام السائد هو من يضع قواعد التجربة، وهو من يقوم بتنفيذها، وبالتالي فإنّ المعرفة الصادرة عنه مشكوكٌ في أمرها. ثمّة إحالات إلى التراث الفلسفي لمدرسة فرانكفورت ونظرية "النقد الاجتماعي"، وخصوصًا أفكار هربرت ماركوزه (1898- 1979)، حول إخفاء المنظومة السائدة المعرفة العلميّة التي لا تدعم صيرورة سلطتها، وبأنّ النظام السائد سيصف النقد الذي يوجّه ضده من قبل "النقاد الاجتماعيين" بأنّه نقد "غير عقلاني". 

وهذا ما تفعله السلطة دومًا كي توقف حركة التحوّل الاجتماعي النقدية. وتقوم السلطة المهيمنة باستخدام خطابٍ من النوع الباثولوجي تجاه نقادها، أي تفسير ظواهر اجتماعية بتعميمات طبية مثل "مرضى" و"مجانين" و"مهووسين". الخطاب الباثولوجي هو العنصر الأساسي من عناصر الهيمنة لدى ماركوزه.


الهيمنة هنا
ولكن لعالم الاجتماع الألماني، نيكلاس لوهمان (1927-1998)، رأيًا فلسفيًا نقديًا صادمًا يقول فيه: "أنا في هذا السياق أقفُ إلى جانب المنظومة المهيمنة!"، مُعللاً بالقول: "عدم الثقة المطلقة بكلّ شيء، هي مكافئٌ للثقة المطلقة بكلّ شيء... كلاهما يقلّلان التعقيد". الواقع في عصر ما بعد الحداثة هو سائل تتمّ إعادة إنتاجه باستمرار، نتيجة الانتشار الهائل للمعلومات، وببساطة فإنّ الناس في حركة "التفكير خارج الصندوق" يمتلكون واقعًا آخر. وتقاطع بعض الحقائق العلمية المثبتة بالأدلة الدامغة، مع المعرفة العلميّة التي تقوم السلطة المهيمنة بإنتاجها، لا يعني أنّ هذه الحقائق مغلوطة أو مفبركة. الفيروس موجود فعلاً، حتّى لو أنكرت السلطة المهينة ذلك.

لوهمان متنبّئ، إذْ أشار مسبقًا إلى خطورة تقديس النقد والتشكيك الأبديّ في المنظومة السائدة في تراث مدرسة فرانكفورت، أقوى اتجاهات فلسفة ما بعد الحداثة. وفعلاً، الحركات الراديكالية المناهضة للنظام السائد تغيّرت بنيويًا بين عصري الحداثة وما بعد الحداثة. فالحركات الحداثية مثل: التحركات العمالية المبكرة في أوروبا، أو جماعات "إصلاح الحياة" في القرن التاسع عشر، أو بدايات حزب الخضر، هي جماعات متماسكة ومتسقة ولديها بنية تنظيمية وخطة عمل ونظرة شاملة للعالم. 

أمّا حركة "التفكير خارج الصندوق"، فإنها تعاني من نفس الاضطرابات التي يعانيها الفكر ما بعد الحداثي: النفور من الهيكليّة، والنسبوية كأساس للتفكير، وتقبّل التناقض المنطقي، والوقوف ضد مبدأ القاعدة المشتركة. بهذا المعنى فإنّ حركة "التفكير خارج الصندوق" هي حركة ما بعد حداثية بامتياز.  


تمييز مفهومي
والحال، فمن الضروري التمييز مفهوميًا بين جماعة الـ Querdenken وبين "الحزب البديل لأجل ألمانيا" AFD الذي يمثّل عصب اليمين في البلاد. اليمين ينظّم نفسه في مؤسسات سياسية ويشارك في السلطة، بل إنّ بعض أعضاء اليمين الحاليين كانوا ناشطين سياسيين يساريين معروفين في الاحتجاجات النقابية والعمالية السابقة، لكنهم انتقلوا لعوامل كثيرة (ليس من وظيفة هذه السطور الخوض فيها) إلى اليمين بشكلٍ سريع. كما أنّ اليمين طوَّر تصوّراتٍ معادية للمهاجرين والإسلام، ومتسامحة تجاه الظواهر السياسية الشمولية. 

في المقابل، لا آراء معادية للإسلام أو المهاجرين في حركة "التفكير خارج الصندوق"، بل أظهرت الدراسة أنّ غالبية أفرادها يؤمنون بالنقاش الديمقراطي. الافتراق بين الظاهرتين دقيق حتّى في موضوع معاداة السامية: في اليمين التقليدي الألماني معاداة السامية هي ترسّب للفانتازيا الفاشية والنازية، في حين أنّ معاداة السامية في حركة "التفكير خارج الصندوق" قادمة بسبب موقع اليهود المحوري في نظريات المؤامرة.  لذلك، فإنّ التقارير التلفزيونية والمقالات التي تُنْشَر عن الحركة بأنها حركة يمينية هي غير دقيقة ومُبالَغ بها.

الحركة هي تلخيص بعد الاضطرابات في الفكر ما بعد الحداثي نفسه.

المساهمون