التسكيت الافتراضي.. وسائل التواصل مِن منظور أخلاقي

التسكيت الافتراضي.. وسائل التواصل مِن منظور أخلاقي

27 يناير 2021
(عمل لـ كارولين فيغل)
+ الخط -

إثر "نقّه" المستمر بأنّه الفائز في الانتخابات، وتحريضه أتباعه على اقتحام مبنى الكونغرس، قرّرت "تويتر" إيقاف حساب دونالد ترامب. أثار هذا التسكِيت الافتراضيّ مخاوف لدى كثيرٍ من المتابعين حول سلطة وقوّة الشركات التي تمتلك مواقع التواصل الاجتماعي ومبادئ حرية التعبير. وطُرِح السؤال بشكله البسيط: هل ممارسة الرقابة على الأخبار الكاذبة انتهاكٌ أخلاقي لمعايير حريّة التعبير؟


فراغٌ في المفهوم

الأخبار الكاذبة ممارسةٌ قديمة قِدَم استقرار الإنسان في تجمّعات بشريّة. في الإمبراطوريّة الرومانيّة المقدسة خلال القرن الخامس عشر، كانت قصائد الهجاء Pasquinades تُعلَّق على التماثيل في الساحات العامة، حاملةً الإشاعات المغلوطة والمعلومات المشوَّهة، وعادةً ما كانت تستهدف شخصيّات عامة. لاحقًا، ومع بدايات نشوء الدولة وانتظام البشر في أحزاب سياسيّة، ظهرت الصحافة الحزبيّة، والتي كانت أحيانًا تنشر أيضًا أخبارًا كاذبة، غالبًا لمكاسب سياسية. في العصر الحديث، وتحديدًا في بدايات القرن العشرين، ظهرت الصحافة المستقلّة غير الحزبيّة، وخصوصًا "نادي الصحافي الوطني" NPC (تأسّس عام 1908) في أميركا، لتكرّ سبحة المدارس الصحافية المستقلّة لاحقًا.

هل الرقابة على الأخبار الكاذبة انتهاكٌ لحريّة التعبير؟

ولكنّنا نعيش الآن في لحظة صحافية مختلفة، إذْ لم يسبق أن شهدنا هذه القدرة على الوصول إلى عددٍ كبيرٍ من الناس في فترة زمنيّة قصيرة. شركات وسائل التواصل الاجتماعي ومحرّك "غوغل" تُقدّم دومًا تقارير تشير إلى السرعة الهائلة لانتشار الأخبار عن طريق النقر والمشاركة والبحث. كما أنّ ثمّة اختلافًا جذريًا يُميّز تجربة النشر في عصرنا الحاليّ، وهي "إخفاء الهوية"، كما تقول شخصيّة كرتونية مشهورة: "على الإنترنت.. لا أحد يعرفُ بأنّك كلب".

ولأنّ الفيلسوف جيمس مور James Moor، هو من أوائل المهجوسين بتأثير التكنولوجيا على الأخلاق، أشار مبكّرًا إلى أنَّ سرعة التطوُّر التقني تركت "فراغاتٍ في السياسة والمفاهيم"... فراغاتٌ أدواتُنا الفلسفية الحالية غير قادرة على الإطلاق على مِلْئها. ودعا، منذ عام 1985، إلى تطوير الأدوات الفلسفيّة حتّى تكون قادرةً على الإجابة عن الأسئلة الأخلاقيّة التي سيطرحها هذا التطوّر التكنولوجي الهائل، عاجلاً أم آجلاً.


لا عالَم من دون أخلاق

إثر نية حريصة على حريّة التعبير وكرهًا لكلمة "الرقابة"، يقول البعض إنّ البديل عن حظر الأخبار المزيّفة هو تعميق الحس النقدي الأخلاقي لدى الناس. إذْ إنّ الحس النقدي كفيلٌ بحماية العقول من تشويش الأخبار المزيّفة. ولكن الفرضيّة تعاني من الضعف نفسه الذي ستعانيه فرضيّة تنادي بإلغاء السجون وإشارات المرور (بل وأي قانون)، والاتجاه بدلًا من ذلك إلى تنمية "الحس النقدي الأخلاقي" لدى الناس (اعتمادًا على فكرة: الناس قلبها طيّب). "الإنترنت عالَم.. ولا عالَم بدون أخلاق وقوانين"، يقول مور. المطلوب إذاً قوانين وقواعد بدلاً من انتظار "مناعة قطيعٍ" ضد الأخبار المفبركة.

والحال، فإن أشكال ممارسة الرقابة في عالم الإنترنت كثيرة، منها مجلّد "سبام" الموجود في كلّ بريد إلكتروني، أو خَفْض المواقع التي تنشر الأخبار المغلوطة إلى الدرك الأسفل في محرّك "غوغل" الذي "يعزّ من يشاء ويذل من يشاء"، أو الإشارة إلى الخبر بكلمة "مزيّف"، كما فعلت منصّات التواصل الاجتماعي مع دونالد ترامب وحملته الانتخابية. رغم هذه الأساليب، ينتشر الخبر المزيّف على "تويتر" أسرع بخمس مرّات من سرعة انتشار الخبر الصحيح.

ينتشر الخبر المزيّف أسرع بخمس مرّات من الخبر الصحيح

ثمّة أمثلة طريفة أيضًا، الأميركي الضجران جستن سيمثسون Justin Smithson، أنشأ موقعًا لجني المال مختصًّا بنظريات المؤامرة. الرجل غير المهتم بالسياسة على الإطلاق نشر خبرًا بعنوان "البابا فرنسيس يؤيد دونالد ترامب في الرئاسة"، ليقوم شاب أميركي من مؤيّدي ترامب عمره 20 عامًا واسمه أوفيد دروبوتا Drobota Ovidiu، بنشر الخبر على صفحته، وليشاركه الملايين لاحقًا، وليتطلّب الأمر نفيًا رسميًا. الناشط الديمقراطي الأميركي جيستين كولر Jestin Coler، والذي يتقصّد نشر أخبار كاذبة تلائم مزاج مؤيّدي ترامب من أجل التسلية، نشر خبرًا بأنّ "عميل التحقيقات الفدراليّة الذي كشف تسريبات إيميل هيلاري كلينتون وُجِد في شقّته منتحرًا". انتشر هذا الخبر أيضًا بسرعة وشاركه الملايين من مؤيّدي ترامب.


ظاهرة اجتماعية لا فردية

من جهته، الفيلسوف الأميركي سكانلون T.M Scanlom، يُعرِّف حرية التعبير بأنّها ليست إلا حرية في التواصل. فحرية التعبير عند روبنسون كروز، المعزول الوحيد في الجزيرة، لا تمتلكُ أي معنى على الإطلاق. كروزو حُرّ فعلاً، وقادرٌ على أن يقول ما يريد، ولكن لا أحد يستقبل هذا التعبير، وبالتالي لا معنى لحرية تعبيره. حرية التعبير هي "ظاهرة اجتماعية" وليست ممارسة فردية مجرَّدة. ليست مجرَّد تحريك للحبال الصوتية أو نقرًا على أزرار لوحة المفاتيح.

ولأن حرية التعبير فعلٌ تواصُلي بين فردَين على الأقل داخل بنية اجتماعية، فإنّ العنصر الأوّلي الذي يُشكّل مفهوم حرية التعبير، ليس الفرد المستقل الحرّ، كما يُشاع، بل هي ثلاثة عناصر: المتكلّم الذي يعبّر عن نفسه، والمستمع الذي يتلقّى المعلومات، والإطار الاجتماعي الذي يقوم بتداول هذه المعلومات. على هذه العناصر الثلاثة أن تبقى منضبطة في هيكلٍ حرّ، إلى الحدّ الذي لا يَنتهك فيه أيّ عنصرٍ العنصر الآخر.

فإذا قال أحدهم فجأةً في مسرحٍ مظلم مضلِّلاً الجميع "نار"، فإنّ الكلام يمكن أن يندرج في إطار حرية التعبير لدى المتكلّم، ولكنه إساءة وانتهاك للعنصرَين الآخرين: المستمع والإطار الاجتماعي. الآن ما هي الحدود التي تحقّق التوازن بين العناصر الثلاثة، هذا سؤال صعب يحتاجُ وقتاً طويلاً من البحث والتفكير. المهم هو أنّ الأخبار الكاذبة لا تنضبطُ بهذا الهيكل على الإطلاق، ولذلك، فإنّ قمعها ومنعها والرقابة عليها، لا تُعتبَر انتهاكًا لحرية التعبير من الناحية الأخلاقية. لأنّ هذه الأخبار هي التي تنتهك أحد العناصر الثلاثة في شرائع التواصل، وبالتالي فهي التي تنتهك حرية التعبير!


* كاتب من سورية

المساهمون