حدائق العاشق (8): صوفيا

حدائق العاشق (8): صوفيا

22 يوليو 2023
نُصبٌ تذكاري لمقاتلي المقاومة في إحدى حدائق صوفيا ببلغاريا (Getty)
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "حدائق العاشق"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في سبتمبر/ أيلول 2021، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتّاب فلسطين والعالم العربي.


الثلج يتساقط عارياً
مثل قصائد بيضاء

(إيفان يانتشيف)


تساقطَ الثلجُ طيلة الليل. وحين تقفُ وراءَ زجاجِ الشرفة العالية، وتتطلّع إلى الأشجارِ وسطوح البيوت المُنخفضة، والمباني العالية، لا ترى إلّا الأبيضَ بارزاً ومُضيئاً في العتمة. البياضُ، والبياضُ المطلق والوحيد. دعوةٌ للسهر، أو رغبة لمرافقة هذا البياض في رحلته حتى منعطف الصباح.

هذا النثارُ الأبيض المتساقطُ الخفيف يبدو نائياً. الغرفةُ دافئة بفضل نظام التدفئة المركزية، بقية من حسنات النظام القديم، نظامِ التماثيل المُنكفئة في الحدائق والمجمّعات السكَنية الشبيهة بخلايا نحلٍ عملاقة، نظام خزانات خشب الجوز الكامد حيث يحتفظ البافلوفيون بنسائهم، بكل ما تبقّى: الأقلام والأوراق وفساتين النُّزهات والقبَّعات الشاحبة، بحرصٍ ودقّة مُتناهيَين يصلان حدّ تقديس الغبار. نظام الموظّفات العجائز اللواتي ما زلن يحتفظن بصرامة النظرة المتشكِّكة والحذرة، والشابّات الضاحكات مثل نهارٍ يحلُم بصديقٍ وزجاجة راكية وغرفة دافئة تُطلّ على شوارع مُقفِرة. 

جالا الأربعينية تتساقط أسنانُها، فتظلّ تعيد ترتيبها بين فترة وأُخرى. جالا غجريةٌ ضائعة، لا تملك خزانةَ جوز تنتظرها، لا شوارعَ مكتظّة بالتماثيل، بل حناناً قديماً يُحيط بأُسرةٍ تعيش في أعماقها. مشهدُ طفلة في بيت واسع يتحرّك فيه الخدم جيئة وذهاباً. يخلو البيت فجأة، يذهب الأبُ والأمّ إلى بلد غامض يسمّى روسيا، وهناك تطمرهما الثلوجُ إلى الأبد.

ديانا أقلّ احتفالاً بالذكرى. فستانٌ أسود يلتصق بجسدٍ خَمريّ، شفتان حانيتان، حزنُ عينين واسعتين، وسرطانُ ثدي ينتظر. تفكّر بالهجرةِ مع طفلها الوحيد المُنعزل إلى عمّةٍ في أستراليا، وفي انتظار ذلك تستسلم لصديقها رجلِ المخابرات اللحوح.

الخطورة كانت تكمن في أنّ السلاحف تُصرّ على أنها تفهم الشعر

نادية الشقراءُ الممتلئة تتساءل حتى هذه اللحظة كيف كانت حمقاءَ، وارتضت الزواجَ من عامل القطارات آسين، الذي تحوّل إلى قطار بليد غارق في محطّة مُعتمة. 

في النهارِ الفضّي تتوافد الترامفايات، ويتجمّع الناسُ بمعاطفَ ثقيلة، ومظلّاتٍ أثقلَها البياضُ المنهمر عند المحطّات على امتداد الطريق. بعضهم يسير كأنما في أماكنَ نائية، بعضهم يجلس مُنتظِراً تحت المظلّات الزجاجية.

السكونُ يُحيط بكلّ شيء، لا يقطعه بين آونةٍ وأُخرى سوى هدير الترامفاي القادم، ثم وقوفه مُطلِقاً صوتاً حادّاً، فإقلاعُه هادراً مرة أُخرى.

يصعد الناسُ إليه من كلّ مكانٍ، يذهبون إلى أيّ مكان. في كلّ الاتجاهات، يملأون صفوف مقاعد الجانبَين ويطلُّون من النوافذ، يتزاحمون في المَمرِّ الخالي بين الصفّين مُمسكين بالقضيب الحديدي الممتدّ فوق رؤوسهم، ناظرين إلى الأمام دائماً، أو مُتباعدين لإتاحة الفرصة لقادم أو قادمة جديدة.

السكونُ يُحيط بكلّ شيء إلّا من الهدير، ومن مرور ترامفاي آخر من الاتجاه المعاكس، الهديرُ يُحيط بكلّ شيء، فتبدو الوجوهُ وراء نوافذه ساهمةً خالية من أيّ تعبير، وجوهٌ شمعية تتطلّع إلى وجوه شمعية في نوافذ الترامفاي الآخَر. وما إن تصعد شابّةٌ ناهدة من محطّة وهي تنفض عن معطفها الجلدي نثار الثلج وتطوي مظلّتها، تتّجه حركةُ رؤوس فضولية نحوها، وتتباعد الأقدام، ثم يهدأ كلّ شيء حين تستقرّ الشابّة بعد إلقاء نظرة لامبالية عمياء، يميناً وشمالاً، وتمسك بالقضيب الحديدي أمام كهلٍ غارق في سكونه، نافضةً شعرها المبلّل القصير بحركة من رقبتها.

- "الشِّعرُ مهنةٌ خطرة". 

هذا هو التحذير الأول الذي تلقّاه إيفان يانتشيف، الستيني ذو الشعر الأبيض المُسترسل، والوجه البيضوي الممتلئ، من والده حين سمع بما ينشره من قصائد.

- "إلّا أنّ الخطورة لم تكُن إلّا بسبب السلاحف التي كانت تُصرّ على أنها تفهم الشعر، بل ويجب أن تفهمه". 

وهكذا وجد نفسهُ عاطلاً عن العمل والشعر أيضاً قبل أن يُهاجر إلى باريس، ويقترب من أوكتافيو باث، وبيكاسو، ودالي، وينشغل خياله بعُمر الخيام، عمر الذي يتحدّث عنه وكأنه كان ضيفه بالأمس.

وسط الساحة، أمام فندق "شيراتون صوفيا" الأبيض الكبير، كانا في انتظارهِ ملفوفين بمعطفين طويلين. وقبل أن يتوقّف الترامفاي رآهما مُنعزلين في الوسط، يدور بينهما حديث تتناثر منه الإيماءات.

ما إن بدأوا السيرَ معاً حتى حذّره أحدُهما من خطر الانزلاق، فالثلجُ بعد ساعاتٍ قليلة من سقوطه يتحوّل إلى ألواحٍ زُجاجية تحت أقدام الناس.

ها هي صوفيا إذاً، وجعفر المصباح السحري المُقيم فيها كأنما يُقيم في أقصى العالَم، وصديقه المبتسم بإشفاق كأنما ليشجّعه على مُواصلة الرحلة.

مطارُ عمّان في آخر الليل إضاءةٌ في صحراء، لا تخفّف من غرابته أشباحُ المسافرين المتناثرين. يتقدّم الطفلان وحقائبهما المدرسيّة على ظهريهما. أناهيدُ أكثر فضولاً، لا تكفّ عن الحركة، والدبُّ القطني يطلّ مُتمايلاً برأسه من قمّة حقيبتها. وراءها غسان بلامُبالاته الظاهرية، يطلّ من حقيبته جزءٌ من كتاب ضخم بالإنكليزية عنوانه "العصر الحجري".

المصباحُ السحريّ ما زال صوتُه يحمل الارتجافة القديمة: عن الانتصار النهائي للشيوعية

منذ أن خرجنا من الكويت مروراً بالطريق الصحراوي، كنّا نعبر العصرَ الحجري بالفعل. ربّما جاءت الفكرةُ من اسم أول مكان في الأردن هبطنا فيه: وادي الحجر. وادٍ جافّ مُكتظّ بالحجارةِ، لا يُذكّر بالماء فيه إلا اتّساع الهوّة الممتدّة بمُحاذاة الشارع السريع.

حين وقفَ لتحويل نقودهِ إلى دولاراتٍ، كان شخصٌ ما، تبدو على ملامحهِ حمرةُ الارتياح لا يزال يعدّ نقوده؛ وشاحٌ صوفي، وجواز سفر واطمئنان إنسان في بيته. وما إن استدار حتى قفز إلى ذهنه الشخصُ كاملاً: أستاذُ الاقتصاد في الجامعة، الرحلاتُ اليومية إلى مصانع الصابون والدجاج، وأخيراً مدير "مركز الوحدة العربية". تداعى كلّ هذا في ومضةٍ ليستقرّ على وجهه المُطمئنّ في وشاحهِ وجواز سفره، وفي الوحدة بالطبع.

وحدّثَ نفسه:

- "لنا وحدتُنا كما يبدو ولهم وحدتُهم... مصائر مختلفة".

المصباحُ السحريّ ما زال صوتُه يحمل الارتجافة القديمة، وما زالتْ سُمرته التُّرابية ومشيتُه المنتصبة، وربّما النظرةُ القَلِقة الباحثة في الزوايا عن مصباح علاء الدين نفسها: عن الانتصار النهائي للشيوعية.

من أقواله:

- "الأفضل أن تقتل طفلاً رضيعاً من أن تقتُل رغبة".

ومن ذكرياته ذلك الزوربا القرويّ الذي عمل معه في كبس التمور بين نخيل البصرة. كان يعيش في كوخ منفرد على ضفة النهر، وأجمل لحظات حياته اصطيادُ سمكة، وتقليبها على نار الحطب، والسهرُ حتى الصباح مع زجاجة خمر. أما أقواله الأخيرة فهي: إنّ الشيوعيّين دمّروا بأنظمتهم اللاإنسانية الفرصةَ التاريخية الكبرى، والتي لن تعوّض ولو بعد مئات السنين.

شارع  خريستو بوتيف. صفوفُ أشجار حُورٍ سامقة وعارية على امتداد الجانبَين. البناياتُ ثقيلة. مداخلها مسودّة كأنما من آثار حريق قديم. لا أثرَ إلّا لأشباح كافكا المُتردّدين على محاكم تنظر في اتهامات، لا يعرفون ما هي، والمُنتظرين لدى بوّابة القصر منذ عصور لا يعرفون عددها.

من المؤكّد أنّ كافكا كان واقعياً حتى الجنون. حتى تلك اللحظة التي يعرف فيها الكاتبُ كلّ شيء، البداية والنهاية، فيقف مذهولاً أمام الصمت الكوني الأخير، أمام ذكرى الإنسان، ولا يتعثّر بالسلاحف وعمال السكك الحديدية ورجالِ المخابرات ومديري مراكز الأبحاث المُطمئنِّين وقادةِ الأحزاب، ونباتِ الظلّ الذي ينهي قصائده دائماً بأنخاب النصر.

هذه هي المرّة الأُولى التي يكتشف فيها أنّ المدنَ يُمكن أن تُبنى، أن تتّسع ساحاتُها لآلاف المتظاهرين والرايات، أن تتردّد فيها أصداءُ الخطابات الحماسية، ثم لا يخلف ذلك غير البردِ والسكون، والقليل من المُحتفلين بالذكرى، والريح التي لا تزال تعصف أو تهدأ منذ أنِ استمع إليها إنسانُ الكهف، فإنسان القرية، فإنسان المدينة، وأخيراً إنسانُ الإمبراطوريات والقراصنة. كلُّ شيء يبيد إلّا الريح. الريح نفسها التي عصفت بمدن الماضي ستعصف أيضاً بمدنِ الحاضر، وتتخطّاها في رحيلها اللانهائي.

العنوانُ الذي يحمله مختصَرٌ. رقمٌ  وشارع. إلّا أنّ  جعفرَ بدا واثقاً من وجود الرجل، مهرّب الناس إلى عواصم الشمال الأوروبي.

في ملحقِ حمد اعتاد المصباحُ السحريّ أن يكون الحاضرَ الدائمَ، واليائسَ الدائم، رغم آماله المُعلّقة على المصباح الموجود في مكانٍ ما، والذي لا بدّ أن يكون موجوداً حتى لا نُطلق الرصاص على أنفسنا. 

لا أدري من أين كان يستمدُّ مرحهُ. ربّما من الخمرِ الذي يُصرّ على أنّ له طقوسه وقداسته، ربما من الأغاني الغارقة في عمق طفولته لبحّارةِ السُّفن النهرية النائحين بأصواتهم المشروخة، ربّما من البسطاء المخدوعين الذين يثق بيقظتهم.

سيندم فيما بعد لأن الأيديولوجيات منعتنا من التحديق في التفاصيل. في هذه الظلال الدقيقة للأشياء. في وجوه الناس الذين تحتشد بهم طرقاتُ الماضي. أناسٌ ينبعثون الآن مثل صورٍ خرساءَ من الأعماق تلحُّ على أن تكتب. أن يرمَّم بها عطبُ الذاكرة.

كافكا كان واقعياً حتى الجنون. ناجي لم يكن أقلّ واقعية، إلّا أنّ ما أنقذه من الجنون الحسُّ بالفكاهي، تصعيدُ العتمةِ والجنون والكآبة وألم البراءة إلى الأعلى، حيث تفقد الأشياء ثقلها، ويبدو النظرُ إليها أقلّ خطراً. إلّا أنّه لن يستطيع تفادي الرصاصَ الذي سينهمر على رأسه ذات صباح في شارع لندني، رصاصَ البلاهة المُطلقة. 

على مدخل إحدى البنايات المُعتمة يكتشفان الرقمَ ووجود الرجل. يأخذان طريقهما فوق درجات مُعتمة وباردة. الشقّةُ أمامهما مباشرة، حتى بدا أنّ لا شقّة سواها في هذه البناية الكبيرة. ولكنّ الداخل مختلف. وجوهٌ متنوّعة، آلاتٌ كاتبة، شبّانٌ يسترخون في الصالون بعيون محمرّة ولحىً مُهملة. صوتُ حفيف أوراق. نداءاتٌ بالعربية.

ويبتسم الرجلُ بطيبة إلى درجة خُيّل إليه معها أنّ الوصول إلى السويد أو الدانمارك يقف وراء الباب: نحتاج إلى صورٍ ملوّنة. أفضَلُ جواز سفر مناسب لكما وللأولاد: اليوناني، لأنّ لا أحد في مطارات أوروبا يعرف كلمة يونانية.

الرجلُ المعجزة يجعل الأمرَ مريحاً. كما لو أنه يدير إمبراطوريةً عالمية.

نصوص
التحديثات الحية

المساهمون