بيتر هاندكه لا يزال ينتظر اعتذاراً من الضحايا!

بيتر هاندكه لا يزال ينتظر اعتذاراً من الضحايا!

16 يوليو 2022
نساء فقدن أقارب، يحملن صورة لتوابيت ضحايا لمجزرة سربرنيتسا، لاهاي، 2004 (Getty)
+ الخط -

تمرّ هذه الأيام الذكرى السابعة والعشرون لمجزرة سربرنيتسا، التي بدأت في 11 يوليو/ تموز 1995 وانتهت في الـ22 منه بمقتل 8372 من بُشناق البوسنة على يد وحدات من جيش صرب البوسنة، الذي كان يقوده الجنرال راتكو ملاديتش، والذي صدر عليه الحكم بالسجن المؤبّد في محكمة جرائم الحرب في لاهاي عام 2017.

ومع أن ما حدث كان في "منطقة آمنة" تابعة للأمم المتحدة وبتواطؤٍ ما مع القوّات الهولندية التابعة للقوات الدولية، التي كان يجب أن تحمي المنطقة، إلّا أن النقاش تمركز في البرلمانات الأوربية ــ فيما بعد ــ حول توصيف ما حدث بأنه "مجزرة" أو "إبادة جماعية" (جنوسايد) منظّمة، وهو لا يزال متواصلاً إلى الآن. حتى إنّ البرلمان الألباني لم يبتّ في الأمر إلّا قبل أيام فقط (7 يوليو/ تموز) في تصويته على اقتراح مقدَّم من "الحزب الاشتراكي" الحاكم يصف ما حدث بأنه "إبادة جماعية".

وليس المستغرب هنا أن يأتي التصويت على هذا الأمر في البرلمان الألباني الآن بعد مرور 27 سنة، بل لكونه كان مقدّماً من "الحزب الاشتراكي" الحاكم الذي جعل ألبانيا أفضل شريك لصربيا في السنوات الأخيرة التي برز فيها الرئيس ألكسندر فوتشيتش، الذي كان وزير الإعلام في عهد نظام سلودبودان ميلوشيفيتش. وبعبارة أخرى، فإنّ الأمر لم يعد يتعلّق باليمين واليسار، بل أصبح يتعلّق بقراءة ما حدث وفق المصالح الجديدة.

لكنّ ما خلط اليمين باليسار وأحرج الرئيس الصربي ألكسندر فوتيتش هو الجدارية التي ظهرت في أحد شوارع بلغراد للجنرال راتكو ملاديتش باعتباره بطلاً وطنياً، وهو أمر لا يزال يقسم الشارع الصربي إلى قسمين: اليمين القومي الذي لا يزال يعتبره بطلاً وطنياً، والوسط واليسار الديمقراطي اللذين يريانه غير ذلك، في ضوء مصالح صربيا الجديدة ضمن الاتحاد الأوروبي.

اختار تبرير كلّ ما لحق بالأغلبية المسلمة في البوسنة

غير أنّ ما أجّج النقاش حول راتكو ملاديتش وسلوبودان ميلوشيفيتش ومجزرة سربنيتسا كان إعلان القائمين على "جائزة نوبل"، في أكتوبر/تشرين الأول 2019، عن فوز الكاتب النمساوي بيتر هاندكه بهذه الجائزة في مجال الأدب، نظراً لما كتبه ودافع عنه وعبّر فيه حتى في كلمته على قبر ميلوشيفيتش خلال تشييعه في 18 مارس/ آذار 2006، وما أعاده في دفاعه عن نفسه بعد المفاجأة التي تلت الإعلان عن فوزه بـ"نوبل".

ومع أنّ مثل هذه المناسبة (الإعلان عن الفائز بـ"جائزة نوبل") يؤدّي عادة إلى ترجمة بعض أعماله إلى اللغات التي لم يُنقَل إليها، إلّا أنه تجدر الإشارة هنا إلى ما تُرجم أو ما صدر عنه في الصربية والعربية، مع الفارق بين الجمهورين بطبيعة الحال.

الصورة
إحدى الناجيات من المجزرة، في مقبرة بوتوتشاري، قرب سربرنيتسا، 2010 (Getty)
إحدى الناجيات من المجزرة، في مقبرة بوتوتشاري، قرب سربرنيتسا، 2010 (Getty)

في الحقيقة، كان هاندكه كاتباً معروفاً في سبعينيات القرن العشرين، حين كانت يوغسلافيا في عزّها، واستحقّ آنذاك أن تُترجَم أعماله إلى العربية والصربوكرواتية (التي كانت تجمع غالبية سكّان يوغسلافيا) وغيرها من لغات العالم. وهكذا صدرتْ بالعربية روايته "الشقاء العادي" (أو "حزن غير محتمل" أو "محنة" ــ وكلّها عناوين ترجمات عربية للرواية نفسها الصادرة عام 1972)، ثم "المرأة العسراء" و"رسالة قصيرة للوداع الطويل" وغيرهما، وصولاً إلى "دون جوان" التي صدرت بُعيد الإعلان عن فوزه بـ"نوبل" في 2019. وتتابعت السلسلة مع إعادة إصدار "حزن غير محتمل" في 2020 في القاهرة و"لصّة الفاكهة" في 2021 عن مشروع "كلمة" في أبوظبي.

وقد تُرجمت هذه الروايات أيضاً إلى اللغة الصربوكرواتية، كما كانت تُسمّى حتى 1992، أي حتى انهيار يوغسلافيا، التي برز فيها، حينذاك، بيتر هانكه بدور آخر بين الصرب والكروات، أو بين الصرب والبشناق، خلط فيه بين الأدب والسياسة بانحيازه إلى طرف ضدّ آخر، وارتبط هذا بتفتُّت يوغسلافيا وانشطار اللغة المشتركة إلى أربع لغات (الصربية والكرواتية والبوسنية والمونتنيغرية)، حظيت الصربية منها باستمرار إصدار ترجماته.

ولكنّ ما يستحقّ التوقّف عنده هنا هو صدور أول كتاب عن بيتر هاندكه في العربية بعد فوزه بجائزة نوبل، ألا وهو "ما زلت أنتظر الاعتذار"، من ترجمة وتقديم إسكندر حبش ("خطوط وظلال"، عمّان، 2021)، الذي قرأتُه تزامناً مع حدث ثقافي تكريماً لهاندكه في قلب صربيا، التي لا تزال تتأرجح بين الأدب والسياسة، بين هاندكه الأديب وهاندكه السياسي.

وفي الحقيقة أنّ هذا النوع من الكتب، الذي تكون فيه المقدّمة (30 صفحة تشكّل ربع الكتاب) أهمّ من الترجمة، يوجّه القارئ مسبقاً إلى حيث يريد. ومع تقديري لإسكندر حبش كشاعر ومتابع للأدب العالمي ومترجم له، إلّا أن المقدمة جعلتني أتوقّف فجأة عند سطورها الأخيرة وأنا أنتظر المزيد. كنت أتابع بتقدير تحليلاته العميقة لأعمال هاندكه التي جلبت له الشهرة ككاتب في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، قبل أن "يحمل" قضية إشكالية ارتبط فيها باسم سلوبودان ميلوشيفيتش رئيساً وسجيناً ومدفوناً تحت التراب.

ولكنّ هذا الجانب المهمّ الذي أثّر على أدبه اللاحق، وأثّر على قرّائه، وصولاً إلى الجدل الذي ثار حوله بعد الإعلان عن فوزه بـ"جائزة نوبل"، غاب، سواء في المقدّمة (باستثناء إشارات سنعود إليها) أو في المختارات المترجمة للّقاءات التي أُجريت مع هاندكه، والتي توقّفتْ فجأةً في 2017، أي حين صدر الحكم بالسجن المؤبّد على مجرم الحرب راتكو ملاديتش.

الصورة
غلاف هاندكه

من اللافت للنظر في المقدّمة أن يتكرّر، أكثر من مرّة، أن هاندكه اختار "الدفاع عن صرب البوسنة وعن قضيّتهم"، بينما لدينا في الكتاب ما هو أكثر أو أسوأ من ذلك الذي ثبت مع مرور السنوات. وفي الحقيقة، لدينا بين شعوب البلقان سرديات أو مظلوميات معروفة تؤدّي بأتباع كلّ واحدة إلى تبرير التخلّص من الآخَر، وهو ما حدث من حين إلى آخر، من القرون الوسطى إلى نهاية القرن العشرين.

ولذلك، فإنّ الاقتناع أو الانخراط من الخارج في أية سردية أو مظلومية يقود إلى التورّط في نتائجها الكارثية على شعب آخر، كما حدث بالضبط في البوسنة، حيث تتداخل السرديات والمظلوميات بين البُشناق (المسلمين) والصرب (الأرثوذكس) والكروات (الكاثوليك). ومن هنا، كان هاندكه واعياً إلى خياره، كما جاء في عنوان كتابه "العدالة من أجل صربيا" الذي نُشر عام 1996؛ أي أنه كان يعبّر عن تبنّيه السردية الصربية القومية، سواء في ما يتعلق بالبوسنة أو في ما يتعلّق بيوغسلافيا كلّها.

وبناءً على ذلك، أصبح يرى يوغسلافيا ــ باستمرار ــ كما يريدها سلوبودان ميلوشيفيتش، أملاً في "بقاء" أوروبا، وكأن انهيارها يعني موت أوروبا! ومع أن هاندكه في الحوارات المنشورة معه في هذا الكتاب ردّد أكثر من مرّة أنه ليس مؤرّخاً ولا قاضياً، إلّا أنّ انحيازه للسردية الصربية منعه من أن يتفهّم لماذا انهارت يوغسلافيا الأولى (1918-1941) ولماذا كانت تتّجه ثانية للانهيار السريع في الوقت التي كان يريد لها أن تستمرّ.

يتوقّف الكتاب في 2017، سنة الحكم بالمؤبد على ملاديتش

فقد جاءت يوغسلافيا الجمهورية في 1945 بنظام فدرالي يعبّر عن التعدّد القومي الذي وصل إلى ذروته مع دستور 1974، ولكن مع موت تيتو في 1980، برزت من جديد السردية أو المظلومية الصربية، التي أصبحت تعتبر ميلوشيفيتش المنقِذ للصرب بعد أن دعا إلى "توحيد الصرب" في يوغسلافيا، وهو الذي كان يهدّد وجودها.

ذلك أنه مع نجاح ميلوشيفيتش في السيطرة على نصف يوغسلافيا حتى 1990 (صربيا والجبل الأسود وكوسوفو وفويفودينا)، أصبحت الوحدات الفدرالية الأخرى تخشى من أن تسقط في قبضته، ولذلك آثرت الاستقلال. ولكنّ هاندكه يلوم تلك الجمهوريات (سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة ومقدونيا) التي آثرت الاستقلال عن يوغسلافيا الميلوشيفية، مؤسّساً لموقف غريب، مضادّ للتاريخ، بعد أن استقلّت سلوفاكيا بشكل سلمي عن التشيك في نهاية 1992، لينتهي بذلك، في 1/ 1/ 1993، هذا الكيان المصطنع (تشكوسلوفاكيا) الذي فرضه مؤتمر الصلح في باريس.

ومن المستغرب هنا أنّ هاندكه لم يقف عند هذا "الطلاق الحضاري" الذي كان تصحيحاً لخطأ فرضه مؤتمر الصلح، ولم يدعُ له من أجل تجنّب شعوب يوغسلافيا الكوارث التي لحقت بها بسبب إصرار ميلوشيفيتش على فرض رؤيته لـ"توحيد الصرب" أو لـ"صربيا كبيرة" تُهيمن من جديد على يوغسلافيا الثانية، كما كان الأمر مع الأولى (1918-1941). ومن الغريب أيضاً أن يروج هاندكه ليوغسلافيا الميلوشيفية، التي حمل جوازها، باعتبارها "فكرة كوسموبوليتية"، والتي مع انهيارها "ماتت أوروبا" (ص 89).

الصورة
امرأة تمشي بين قبور أقرباء لها قُتلوا خلال المجزرة، 2019، في مدفنة بوتوتشاري، قرب سربرنيتسا (Getty)
امرأة تمشي بين قبور أقرباء لها قُتلوا خلال المجزرة، 2019، في مدفنة بوتوتشاري، قرب سربرنيتسا (Getty)

وتبدو هذه الرؤية الهاندكية الأحادية في أوضح صورها تجاه البوسنة. ففي المقدّمة، يرد أكثر من مرّة أن هاندكه اختار "الدفاع عن صرب البوسنة"، ولكن يبدو أنه اختار تبرير كلّ ما لحق بالشعب الذي يمثّل الأغلبية (البشناق) بتأثير من السردية الصربية، التي هوّلت كثيراً من خطر وصول علي عزّت بيغوفيتش بشكل ديمقراطي إلى منصب رئيس البوسنة في 1990.

فقد كانت "الدولة العميقة" هي التي هوّلت بعد وفاة تيتو "أصولية" بيغوفيتش في محاكمة سراييفو المشهورة عام 1983، التي ثبت لاحقاً أنها كانت مفبركة، وتابعها في ذلك بعض المستشرقين الصرب الذي ضخّموا خطر تأسيس "دولة إسلامية أصولية" في البوسنة، ما جعل كل ما حدث لاحقاً للأغلبية البشناقية مبرّراً بهدف "إنقاذ" البوسنة ويوغسلافيا من "الخطر الإسلامي".

وفي هذا السياق، يعبّر هاندكه عن انحيازه الكامل لهذه الرؤية حين يقول في حوار أُجري معه عام 1997: "أعتقد بأن سراييفو ستصبح مدينة إسلامية والبوسنة دولة أيديولوجية عدوانية، فها نحن نرى البوادر، وتتمثّل في مشروع بيغوفيتش" (ص 90).

ومن غير الواضح أي مشروع يقصد هاندكه هنا، إلّا أن ما جرى بعد هذا الحوار هو أن بيغوفيتش حافظ على علمانية الدولة، ولم تصبح سراييفو كما توقع هاندكه "مدينة إسلامية" بل بقيت كوسموبوليتية، ولم تصبح البوسنة "دولة عدوانية" بل أصبحت الأغلبية البشناقية فيها (التي تتجاوز 50%) مسالمة، إلى حدّ أن صوتها في مجلس الرئاسة الثُّلاثي (الذي يمثّل البشناق والصرب والكروات) يساوي صوت الصرب (حوالي 35% من السكّان) أو صوت الكروات (حوالي 10%).

وبالتالي، فإنّ عنوان الكتاب في العربية "ما زلت أنتظر الاعتذار" يمكن أن يكون راهناً فقط في حال: انتظار أن يعتذر هاندكه عن انحيازه لطرف ثبتت مسؤوليّته فيما بعد عن جرائم حرب فظيعة ترقى إلى إبادة جماعية.

لقد تصادفت قراءتي للكتاب مع حدث ثقافي في بلغراد يتمثّل في حضور هاندكه حفل توقيع على طبعات وترجمات جديدة لأعماله باللغة الصربية، وهو الأمر الذي خصّصت له الجريدة الصربية المعروفة "داناس" يومين متتالين في ملحقها الثقافي (5 و6 يوليو/تموز الجاري). كان الأمر يتعلّق بتفسير وجود صفوف من القرّاء الذين كانوا ينتظرون دورهم للتوقيع على نسخهم التي اشتروها.

في هذا السياق، كانت نظرة الكتّاب الصرب الذين استضافتهم الجريدة أكثر موضوعية، وهي تفيد بذلك بعض الكتّاب العرب الذين لا يزالون مثل هاندكه ينتظرون الاعتذار من الضحايا لسقوط مشروع ميلوشيفيتش على قاعدة "عنزة ولو طارت". ففي حديث الكاتبة ميليتسا فوتشكوفيتش تمييزٌ بين هاندكين: "هاندكه الذي كتب أجمل أدب معاصر في العالم خلال السبعينيات، وهاندكه الآخر الذي تورّط في سياسة التسعينيات مؤمناً بأنه بذلك يكافح ضد العولمة ورياء الغرب". وكما الأمر مع هاندكه، كان هناك أيضاً جمهوران له في صربيا: "جمهور يحبّه لأنه وقف إلى جانب سلوبودان ميلوشيفيتش وانحاز للصرب، وهو لا يقرأ مؤلّفاته، وجمهور آخر لا يقرأه احتجاجاً على موقفه الداعم لسلوبودان".

بعكس توقّعات هاندكه، حافظ بيغوفيتش على علمانية بلاده

أمّا عن الجمهور الذي حضر واصطفّ في الدور للحصول على توقيع هاندكه، فهي تفسّره هكذا: "إنه يعود إلى كونه حاز على (جائزة نوبل)، لأننا نحبّ الشخصيات المعروفة عالمياً، ونحبّ السْلاف (على اعتبار أن والدة هاندكه سلوفينية)، خصوصاً أولئك الذين يقومون لأجل استثارة مشاعرنا برفع الشارة الصربية بيدهم".

أمّا الكاتب ساشا إليتش، فعلّق ــ من باب التندّر ــ بأن هذه الصفوف تذكّره بحنين الصرب إلى زمن ميلوشيفيتش، حيث اعتادوا على الوقوف في الصفوف للحصول على القهوة والبنزين والزيت وورق التواليت في تسعينيات القرن الماضي، حين كانت يوغسلافيا تنهار تحت تأثير السرديات أو المظلوميات التي تميّز شعوب البلقان.

ولكن في ما يتعلّق بيوغسلافيا، لدينا مفارقة تكمن في حنين للماضي الجميل (ما قبل بروز ميلوشيفيتش بالطبع) عند الجيل الكبير، وعدم استعدادٍ للعودة إلى ذلك الماضي لدى الجيل الشاب، بعد التغيرات الكبيرة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي لحقت بالمنطقة.

لكنّ هذا لا يمنع الآن أن تكون صربيا وألبانيا على رأس مبادرة جديدة تجمع مكوّنات يوغسلافيا السابقة تحت مسمّى "بلقان مفتوح"، يقوم على المصالح المتبادلة بين دوَل وليس على الشعارات فقط، وهو ما لا ينسجم مع أفكار هاندكه الذي لا يزال يعيش في الماضي... "في انتظار الاعتذار"!


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون