الفصول الأربعة

الفصول الأربعة

13 مارس 2024
عمل للتشكيلية الفلسطينية ملك مطر
+ الخط -

في شهر أيّارَ جئتُ، وفي شهرِ أيّار قد بدأت يا رفاق الحكايَهْ.
كان الزمانُ زمانَيْنِ في بقعةٍ واحدَهْ.
خريفٌ يُعرّي شُجَيْراتِنا بِيديْهِ.. وكانَ ربيعٌ يُفتّحُ زَهرَتَهم في انتشاءْ.

هذا الخريفُ مشى في السَّهلِ والجَبَلِ            نارًا تسيرُ بِلا وعيٍ على مَهَلِ
يمشي وَقورًا خفيفَ الوطءِ مُتّئدًا                 كَمَنْ مَشى فوقَ شوْكٍ غيرَ منتعِلِ
وتشمُلُ الزرعَ والزيتونَ بُردَتُهُ                   فينقلُ الأرضَ مِن خِصبٍ إلى مَحَلِ
وتينةُ الحيّ قد ماتتْ وقد سقطتْ                  أوراقُها وتَعَرَّت دونَما خَجَلِ
تقُصُّ سِيرةَ ماضٍ فاتَ حين غَدَت                 حوّاءُ ترفُلُ بينَ العُريِ والعَطَلِ
فأَلبَسَتها ثيابًا مِن ملابسِها                          واليومَ ظَلّت وحوّاءً بلا حُلَلِ
والأمّ قد جفّ ثدياها وقد هَلَكَت                    والطفلُ يبكي بكاءَ العارضِ الهَطِلِ
وحَدّثتكَ عجوزُ الحيّ قِصّتَها                      والشيخُ يبكي بلا صوتٍ على الطّلَلِ
وعاشَ مَن هُجّروا في غُربةٍ مَعَهُم                مِفتاحُهُم عِيشةً ضَنكى على أمَلِ
بأنْ يعودوا كأنّ الأرضَ ما غُزيَت                ولم يُغَرَّب بنوها وهْيَ لم تَحُلِ

وكانت أميمةُ إذ ذاكَ في المهدِ ترضعُ إصبَعَها وتئنُّ كخيمتِها تحت عصف الرياحْ
وكانت قصورٌ تُشَيَّدُ في التلِّ يملكها الداخلونَ بِحُكم السلاحْ.

وأمّ أميمةَ تُمطرُ طِفلَتها بالقُبَلْ.. وتُنشدُ في أذْنِ طِفلتِها كلّ يومٍ بغيرِ مَلَلْ:
"يمّا مويل الهوى        يمّا مويليَّه
ضرب الخناجر ولا     حُكم الصهيونيَّه"

ويقطعُ صوتُ الرصاصِ النشيدَ فلا يكتملْ
ويضربُ صوتُ الرصاصِ الجراحَ فلا تندَمِلْ
وظلّ الربيعُ عليهم ربيعًا.. وحلَّت علينا شُهورُ الشتاءْ.


***

حلّ الشتاءُ وغطّى الدمعَ بالمَطَرِ                 وحَدّثَ الأرضَ بعد الجهلِ بالخَبَرِ
في كلّ حبّة قَطْرٍ قصّةٌ كُتبَت                     عن الدماءِ جَرَت في النبعِ والنَّهَرِ
عن الشهيدِ الذي أودى وعائلةٍ                    لم تُبدِ سُخطًا ولم تغضب على القدَرِ
عن الجريحِ الذي ما زال ممتشقًا                  سلاحَهُ ليرُدَّ الضُّرَّ بالضَّرَرِ
عن الخيامِ وَمَن فيها وقد غَنِيَت                   عن السراجِ بضوْءِ الشمسِ والقمَرِ
عن طفلةٍ في ظلام البرد أرجَفَها                  خوفُ الظلامِ وقصفُ الرعدِ والمطَرِ
والطفلُ قد حيّرَ الدنيا بِهمّتِهِ                        وقاوَم الطائراتِ السُّودَ بالحجَرِ
عن الصواريخ في ليلِ القنابلِ قد                  أشعلْنَ ليلتَهمْ بالنار والشّرَرِ
عن الركامِ يُغطّي جُثّةً هلَكَتْ                      وطالَما جاءتِ الأنقاضُ بالعِبَرِ
فكُلّ ما شيّد الباني نهايتُهُ                          إلى خرابٍ، وهل للوعظِ كالنَّظَرِ

وظلّ الشتاءُ يُروّي الضحايا فتضربُ أجسادُهم في الترابْ
ويَروي بذورَ الكفاحِ.. ويجلو عن الحقّ عتمَ الغيابْ
وكانت أميمةُ إذ ذاكَ تلعبُ فوق الترابِ المُرَوّى دَمًا.. 
وتسألني عن قصور التلالِ.. وظلّت أميمَةُ تُنشدُ من غيرِ وعيٍ نشيدَ الطفولَهْ:

"يمّا مويل الهوى         يمّا مويليَّه
ضرب الخناجر ولا     حُكم الصهيونيّه"


ومرّ الزمانُ علينا جميعًا.. وصيفٌ طويلٌ أتى، عَمَّ بُقعَتَنا الواحدَهْ
الصيفُ قام، وقام الصدقُ للكَذِبِ               تُنبيكَ أهوالُهُ مَن صاحبُ الغَلَبِ
حَرّانِ فالشمسُ قد قامتْ تُساندُها               مِن البنادقِ نارُ الثأرِ والغَضَبِ
ومسلكُ الحقّ أضحى واضحًا أبدًا              فلا مجالَ بِهِ للشّكّ والريَبِ
وكلّ ذي باطلٍ حانت نهايتُهُ                    وإنْ تزيّنَ في أثوابِهِ القُشُبِ
وكمْ مُعاندِ حقٍّ يدّعي شَرَفًا                     ويدّعي نسبةً في أرفَعِ النّسَبِ
لكنّهُ لم يَبِن والبيضُ قد لَمَعَت                   وغابَ حينَ شُموسُ الحقّ لم تَغِبِ
فلا تَغرّنْكَ في الأجسامِ صُفرَتُها                 ما كلّ ذي لمعةٍ نوعٌ من الذهَبِ
خاضَ المعاركَ في يوم القتالِ فتًى              لم يعتَدِ الخوضَ في بحرِ الوغى اللّجِبِ
كم أضمرَ الحِقدَ في جَنبيْهِ فانفجرَتْ            منهُ الأفاعيلُ حتّى جاء بالعَجَبِ
والخمرُ تُردي طَريحًا مَن يُعاقرُها             وذاكَ ما كانَ يومًا شيمةَ العِنَبِ

وكانتْ أميمةُ تكبَرُ يومًا فيومًا.. وغنّت أميمةُ في الصيف لحنًا جديدًا ومن دونِ وعيٍ
مَحلا البيدر وِلِدريسْ               في أيّام الصيفيِّه
إيد بْتخلع جواسيس                وإيد بتزرع حُرّيِّه
ويعلو الرصاصُ.. وصوتُ الرصاصِ.. ويعلو النشيدْ
وأصبحتُ شيخًا، وصارتْ أميمةُ تسألني مرّةً بعد أُخرى:
لماذا استباحوا حِمى الأنبياءِ.. حِمى الحبّ والأُمنِياتْ؟
جَنَيْتُمْ على شَعبِكُم بالدخولِ 
لِأرضِ الأساطيرِ والفرحةِ الخالدَهْ.
جماعاتُكُم سوفَ تَفنى من الأرضِ واحدةً واحدَهْ.
بَراقشُ ألقَت بأرجُلِها في المهالِكِ طَوْعًا..
فما عادَ يُجدي لديْها النُّباحْ.
سَيَكشِفُ مَوقِعَها صاحبُ الحقلِ عندَ الصباحْ.
كُنّا نُغنّي.. نُعَلّمُ أبناءَنا الحبَّ.. قصّةَ تمّوزَ حين يحلّ الربيعُ.. البنادقُ كُنّا نُسخّرُها للغذاء وصيْدِ الظّباءْ.
ونَدرُسُ سُنبُلَنا ثمّ نعصِرُ زيتونَنا ونقدّمُ قُربانَنا للسماءْ.
لِماذا أتيتُمْ؟ أجيبوا أُمَيْمَةَ..
غَيّرتُمُ الكوْنَ أجَبَرتُمونا على خوْضِ حَربٍ وسَفكِ دِماءْ
سَنطوي على الجوعِ أحشاءَنا أو تَعودوا إلى حيثُ جئتُمْ
لِنرجعَ مِن بعدُ للقمحِ والزيتِ..
نسكنَ أرضَ الأساطيرِ أرضَ الخلودْ.. 


***

والخيلُ تعرفُ ليلًا صوتَ فارسِها            وليسَ فارسُ مُشتَقًّا من الفَرَسِ
لكنّهُ رجلٌ قادَتهُ غَيْرَتُهُ                       على البلادِ فإنْ تظلِمْهُ يَفتَرِسِ
جاءت بشائرُ يومِ النصرِ وانطَلَقتْ          مآذنُ الحقِّ زَفّتها إلى الجَرَسِ
فظلّ يقرَعُ بالبُشرى يُردّدُها                  كأنّما الكونُ كلُّ الكونِ في عُرُسِ
والأرضُ نَشْوَى بيومِ النصرِ صَبَّحَها        صُبحٌ من الحقّ بعدَ الظّلمِ والغَلَسِ
للبرتقالِ حكاياتٌ تُردّدُها                      أشجارُ يافا وريحُ البحرِ في النّفَسِ
وعادَ عيسى ولمْ تنفع وِشايةُ مَنْ              وَشى بِعيسى وغارَت أعيُنُ الحَرَسِ
في القدسِ صلّى رسولُ اللهِ فرحَتَهُ           بالأنبياءِ وروحِ اللهِ والقُدُسِ


وغنّت أميمةُ لحنًا قديمًا..
ولمْ يقطع اللحنَ شيءٌ..
وعاد الزمان علينا كما كان في البَدء لكنْ تبدّلْ
زمانانِ في بقعةٍ واحدَهْ
خريفٌ قد انتاب زهرَتَهم فمحاها
وجاء الربيعُ يغطّي شجيراتِنا بالنضارةِ
يكسو الأفانينَ ثوبَ الزهَاءِ الموشّى
وكانت أميمةُ قد عرفَت فيهِ معنى النشيدْ


* شاعر من فلسطين، طالب دراسات عليا في "معهد الدوحة"
 

نصوص
التحديثات الحية

المساهمون