"العرجون اللّجين".. مجازٌ يَكني عن أفكارٍ ومواقف

"العرجون اللّجين".. مجازٌ يَكني عن أفكارٍ ومواقف

24 مارس 2024
لينا كريدية
+ الخط -
اظهر الملخص
- "العرجون اللجين" رواية تستلهم عنوانها من القرآن واللغة العربية، تدعو لاستكشاف أسئلة معقدة وتركز على الغرابة في السرد.
- تعبر الرواية عبر التاريخ العربي من الجاهلية للعصر الحديث، مستعرضة شخصيات مثل إبراهيم اليهودي وأغاثا كريستي، مضفية تعددية ثقافية.
- تتجاوز الرواية الأطر التقليدية لتقدم خطابًا يمزج بين الرموز والأحداث التاريخية، مستكشفة الهوية والزمان بأسلوب يثري الفكر ويحفز الخيال.

نبدأ من العنوان "العرجون اللجين"، رواية لينا كريدية، الصادرة عن "دار النهضة" في بيروت. إنّه ليس مألوفاً ولا عادياً، فالعرجون اجترح من آية قرآنية "والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم"، وهو يعني عذق النخل اليابس، فيما أن اللجين لفظة قاموسية تعني الفضة.

لا أظنّ إلّا أنَّ لينا كريدية تقصد ذلك وتعنيه. العنوان هو كذلك اختراعٌ بحت، وسؤال يُطرح على القارئ، والكاتبة لا تعدنا، منذ العنوان برواية بسيطة، ستعدنا بأن لا تكون رواية عادية. في الحقيقة سنظلّ نبحث عن الرواية داخل نصٍّ يستوقفنا عند كل محطّة ليطرح علينا أسئلة أُخرى. أسئلة فوق طاقته، لكنه يتوسّع فيها ويتركها معلّقة ماثلة.

لا يوجد في النص ما يُحيلنا على العنوان، لكن مع ذلك لا نشعر بأنّه غريب عنه. ما إن نبدأ القراءة حتى يتبيّن لنا أنَّ غرابة العنوان من غرابة النص، الذي ليس، من ناحية ما، إلا هذا التغريب. إنه ليس رواية إبراهيم "إبراهام" وحده الذي يتراءى لنا، دون حسمٍ، أنَّ الرواية بصوته وكلامه.

إلى جانب إبراهيم هناك، بمصادفة غير متوقّعة أو مبررة، أغاثا كريستي والمرآة اليهودية. واضح أنْ ليس بين إبراهيم يهودي المغرب، وأغاثا كريستي، أية قربى في الزمان والمكان، فكيف يكون الأمر مع اسم لا يمتُّ إلى شخصٍ أو شيء محدّد، بقدر ما هو تدبير لغوي كـ"المرآة اليهودية".

جولة تاريخيّة شاسعة لا نفهم كيف تغدو سياقاً روائيّاً

لن يتألف من حوار الثلاثة أيّ مسارٍ روائي واضح، إنّه في رمزيّته ومساره مجازٌ كامل، يَكني عن أفكارٍ ومواقف. لا تقف المسألة هنا، إذ إننا نجد التاريخ العربي منذ ما قبل الإسلام، حتى أيامنا القريبة يمرُّ، بتفاصيل من حرب داحس والغبراء في العصر الجاهلي، وحرب البسوس من الفترة ذاتها، إلى ظهور الإسلام وبعده الخلفاء الأربعة، فحروب الردّة وفتح مصر. إلى أن نصل إلى ثورة يوليو المصرية ورحيل الملك فاروق مكرماً إلى أوروبا، فهزيمة 1967 وما استتبعها من وفاة قائد الجيش المصري عبد الحكيم عامر منتحراً، أو غير منتحر، بحسب القائل، فوفاة عبد الناصر وظهور الرئيس المجنون القذافي الذي يستدعي مجانين كثراً في التاريخ العربي أوّلهم الخليفة العباسي المسمى السفاح، وقبله الحجاج، وبعدهما أبو طاهر القرمطي وآخرون. كلُّ هذه الجولة التاريخيّة الشاسعة لا نفهم كيف تغدو سياقاً روائيّاً، إلا أن يكون في النص ما يقصد ذلك. 

الصورة
العرجون اللجين - القسم الثقافي

الراوي الذي لا ينفي كونه يهودياً من أن يعايش، بالتقمص الذي لا يشار إليه ويُستنتج بالحدس، كلّ هذه الأحداث ويتابعها جيلاً وراء جيل. لا تقولُ لنا الرواية سرّ هذه المعايشة المستمرّة، فليس في بنيانها ما يستوجب هذه الذريعة. ليس في بنيان الرواية ما يتطلّب تبريراً كهذا، فالرواية هنا لا تنفصل عن التاريخ، ولا حاجة لها إلى هذا الانفصال. إنّها تاريخ بقدر ما هي رواية.

إنّنا هكذا أمام مفهوم للرواية لا يستدعي وحدة زمنية أو مكانية، بل لا يستدعي أي مفهوم باستقلال الرواية. رواية لينا كريدية بدءاً من عنوانها لها هذا الخروج عن مفهوم الرواية، إلى نوعٍ من سردٍ حرٍّ يكاد يشمل كلّ ما يتضمّنه الحكي من استدعاءات شتّى، بل هو مدوّن لكل ما يخطر وما يحضر لمثقف من هذا الوقت. إنّه خطاب شامل يحاور بالكنايات والرموز والأشخاص ومراياهم، التي هي خلفيات عريضة، وهناك إلى جانب "المرآة اليهودية" مرايا دراكولا، وفينوس، ونوستراداموس، وأليس في بلاد العجائب، والميدوسا حتى هاري بوتر.

هؤلاء هم فوق الرواية، والرواية تتحوّل بهم إلى خطابٍ شاملٍ يملك، من هذه الفوقية، ما يجعله خطاباً كونياً، ومن هذا المستوى ينال وحدته العضوية التي هي، في آخر الأمر من صاحبة الرواية وتصدر عنها. بطل الرواية هكذا ليس البطل الحقيقي، فهو لا يكاد يشبه نفسه. إبراهام اليهودي اللبناني الذي هو "يهودي في المنزل فحسب"، وهو في غير ذلك يصاحب عروبياً هو الآخر لا يشبه نفسه ويقرأ "إبراهام" فضلاً عن ذلك الشعر العربي من عنترة والسموءل إلي قصيدة النثر.

سنعثر إلى جانبه أغاثا كريستي وأليس في بلاد العجائب. اليهودي شبِقٌ مثل والده، ولسنا نعلم وجه صلة لذلك بيهوديّته، إذ نتذكّر في الوقت نفسه خرافة الفحولة العربية. اليهودي يروي، لكنه يروي التاريخ العربي، ويقرأ الشعر العربي، فلا نعلم من ذلك مغزى هذه اليهودية إلا أن تكون إفراطاً في العروبة. هذا بالتأكيد روائيّ صرف، إذ لا يستقيم إلا في حدود هذا السرد الحرّ، الذي هو الرواية التي مفهومها الآن أن تكون تغريباً يطاول الجميع، ويجعل لهم مستوى آخر هو الرواية نفسها. لقد بدأ إبراهام يهودياً، ولكن كيهود الرواية، وسار فيها على هذا النحو. لقد خسر يهوديّته هكذا، ولكنّه في المقابل ربح روائيّته. إنّه هكذا ما دامت الرواية هكذا، أي إنها تنطلق من واقع عميق ولكن بعكسه، تنطلق من واقع له هذا المدى التاريخي، لتنسج منه ما يشبه أن يكون أسطورة، أي استعارة كبرى.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون