"..الذين يموتون خلف أعمارهم" لبول شاوول: عين الشعر تحدّق بطفولة غزية

"هؤلاء الذين يموتون خلف أعمارهم" لبول شاوول: عين الشعر تُحدّق بطفولة غزّية

16 يناير 2024
أطفال فلسطينيون وفي الخلفية حيُّهم الذي دمّرته غارة صهيونيّة، رفح، 15 الشهر الجاري (Getty)
+ الخط -

نقرأ قصيدة بول شاوول "هؤلاء الذين يموتون خلف أعمارهم"، المُهداة إلى أطفال غزّة، والصادرة بطبعة جديدة عن "دار راية"، لنجد أنّ القصيدة تستمرّ من السطر الأول، وكأنّها تبدأ من وسطها.

"هؤلاء الذين يكبرون خلف موتهم
ولا سنوات تُحصى
ولا أسماء".

هكذا تبدأ القصيدة من الذُّروة. السطر الأول هو نوعٌ من عودة إلى العنوان، الذي سرعان ما سيبدو رُكناً في النَّص، وستظلّ القصيدة تستعيده وتدور حواليه، بحيث يبدو معنىً كبيراً، معنىً شاملاً، وبحيث تبدو القصيدة وكأنها تتحدّر منه وتتقاطع خلفه. هناك باستمرار، هذا الذِّكرُ لموتٍ مُتّصل بالطفولة، ولطفولةٍ تنجلي بالموت "للموتِ ملمحُ طفلٍ واحد". 

هؤلاء الأطفال الذين "يموتون خلف أعمارهم"، "هؤلاء الأطفال الذين لم يكبروا ـ كما يكتمل بدر أو تعتدل ظهيرة"، "هؤلاء الأطفال الذين لن يكبروا ـ ضاق الفضاء بكواكبهم المكسورة"، "هؤلاء الأطفال الذين لم يعرفوا أنّهم ـ لم يكبروا أو كبروا أو سيكبرون"، "هؤلاء الأطفال الذين ماتوا خلف أعمارهم"، "هؤلاء الأطفال الذين لم يكُن لهم أن ينسوا (والطفولة نسيان)، ولم يكُن لهم أن يتذكّروا (والطفولة تذكُّر)"، "هؤلاء الأطفال ومن شدّة ما اختزنوا الأمكنة المُختارة (وميض لحظات) فاضوا عليها بموتهم (كيف تفيض الآخرةُ على الأماكن الأخيرة؟)، "صارت الأرض تُشبههم فجأةً صارت الأرض بلا حدود سوى ما تركه الطفلُ بينه وبين طفلٍ آخر، بينه وبين شهيد". 

تضادٌّ يؤسّس للُغتَين؛ غناءُ الطفولة وتوحّش الأعداء

هذه شذرات من مقاطع القصيدة، وثمّة هناك باستمرار ما يعود إليها، وما يبني عليها وحولها، بحيث إن القصيدة هي، على نحو ما، استداراتٌ والتفافات حولها، وارتدادات إليها. إذ إن النصّ بكامله يكاد، من ناحية ما، يكونُ سرديّة، وربّما غناء هذه الطفولة الموسومة بموتها. إنه يصدر عنها، ويخرج منها، ويتكوّن حولها. 

ليست وحدها في هذا الامتداد والتمحور، فهناك مقابلُها ما هو ضدُّها الدائم. مقابل الطفولة القتيلة، هناك هؤلاء الوحوش التوراتيّون "وحوش تطلع من التوراة ـ سدوم في محاجرهم"، "وحوش تطلع من التوراة ـ ولا وجوه سوى ما يصنعه المعدن ـ سوى ما يسبّبه النَّصل"، "تقفز فجأة من العدم الى البياض الأخير ـ الوحوش الطالعة من التوراة ـ تفلت موتاها عهودها القديمة"، "كسُور النبوءات العاتية ـ كسُور الآلهة المفلتة بلا أرواح"، "بقوّة التخريف وطقوس الإبادة وجنون الآلهة المعدنية ـ القَتلة يهرمون بقتلهم ـ كما هرموا بكلامهم ـ كما هرموا قبل موتاهم ـ قبل أبطالهم المُضرّجين بدم العالَم"، "ترسم مقاصد الأرض بنصوص ألفيّة"، "كأنّ قفزات من ولادة إلى معدن بلا طفولة ـ لا تغضّن ولا شباب"، "كائنات الكلام الحجري والنفوس الحجرية، والأحجام الحجرية ـ بكّاؤن أرضاً ليست أرضهم"، "يحرقون هشيمهم فوق الينابيع ـ يشعلون يباسهم فوق الوجوه ـ يقتاتون الموتى ـ الأحياء والأحياء والموتى". الأطفال الذين "يكبرون خلف غياباتهم"، والذين "بقفزة واحدة يتلاشون كالنيازك"، هُم في سرديّة واحدة في مواجهة الضدّ التوراتي، على هذه الأرض "التي تخلّت عنها الآلهة". 

القصيدة هي هذا التضادّ الذي يمنحُها وجهاً ملحميّاً. التضادّ نفسه يُؤسّس للُغتَين، غناءُ الطُّفولة من ناحية، وتوحّش الأعداء الذي هو، في نفس الوقت، لغةٌ متوحّشة ومعدنيّة. النَّص هو هذه المُقابلة بين اللُّغتين المُتضادتين.

الصورة
بول شاوول - القسم الثقافي

أمّا مفاجأة النَّص، ففي حين أنّنا نقرأه ونقابله بما يكاد يكون، مُطابقة حرفية، بينه وبين حرب غزّة الراهنة، ولا يُساورنا شكٌّ في أنه رَجْعُها وصداها. نكتشف في النهاية مع تاريخ النصّ، أنّه يعود الى نهاية عام 2008، ومبتدَأ 2009، أي أنّ القصيدة هي من تاريخ سابق، بما يزيد بمقدار عقدٍ من السِّنين عن الحرب الراهنة. لسنا نعرف، على نحو دقيق، إذا كانت القصيدة تُواكب حدثاً مُماثلاً في تلك الآونة، ولن نتقصّى ذلك. ما يهمّنا هو أنها في نشرها اليوم، أُعيرت، من ذلك الوقت، إلى الحرب الراهنة على غزّة.

ما نعرفه أيضاً أنّها، في هذه النَّقلة، لم تفقد شيئاً من راهنيّتها. هي اليوم ماثلةٌ حاضرة كأنّها بنتُ الحقبة الحاليّة، بل بنتُ الحدث الذي ما زال يغلي فيها. إنها تُواكب الرّاهن لا من بعيد، ولكن بالدقيقة واللحظة واليوم. بل هي تُطابق اليوم، في ما يبدو خاصيّات الحرب الرّاهنة، فهذه الطفولة المُغتالة تكادُ تطبَع الحرب على غزّة. القصيدة تُشرِف، منذ ذلك الحين، على هذه الخاصيّة، على هذا التفصيل الواقعي. لا نعرف إذا كان ذلك من استمرار التاريخ، أم أنّه حدثٌ يمُتُّ إلى الشِّعر، ولأمرٍ ما يخصُّ الشِّعر. تحدس القصيدة الواقع الذي يتخطّاها. إنها تطلُّ على اللحظة الراهنة وتحاورها وتغطّيها. ليس لنا أن نقول في ذلك، إلّا أنّها عين الشعر، إلّا أنّها زمنه.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية

المساهمون