التعليق الرياضي.. الثقافة والسياسة في مَلاعب الكرة

التعليق الرياضي.. الثقافة والسياسة في مَلاعب الكرة

10 ديسمبر 2022
هدف لـ كليفورد فيشويك، 1953
+ الخط -

التعليق الرياضي نشاطٌ لغويّ بالأساس، فهو خطابٌ سرديّ يقوم على الاستخدام المرتجَل والآني لوحدات الكلام وآليات الحكْي من أجل توصيفِ حدثٍ يجري أمام الأنظار، الآن وهنا. و"التعليق"، في معناه الاصطلاحي الذي كرّسه الاستخدام العربي، يقابل مصطلح Commentry؛ وهو استعارة رقيقة تُفيد بأنّ المتكلّم، وهو ينشئ خطابه، يُعلّق حديثًا على حدثٍ يجري آنيًّا، ليعطيه معنًى ما. والتعليق، بهذا المفهوم، ينهل من المراجع الثقافيّة والمجازيّة في كلّ لغة وثقافة، من أجل تحقيق فعل التعقيب والتقييم.

إلا أنّ التعليق الرياضي ليس وصفًا موضوعيًّا فحسب، أو هذا ما ينبغي أن يكون عليه الحال، لأنّه قد يتضمّن العديد من الوَحدات السرديّة الأُخرى التي تتجاوز وصف خِطط اللعب وسائر الحركات الجارية على الملعب، ليصير نقدًا وتقييمًا، بما يفرضه من تدخُّل ذاتيٍّ في الأحداث وإضفاء للحُمولات المتخيّلة عليها. ومن اللافت أنّ المؤسَّسات الإعلاميّة والرياضيّة قد رسّخت هذا الواقع. ففي إنكلترا مثلًا، وأيضًا في بعض التجارب العربيّة في السنوات الأخيرة، يُمكن للمقابلة الواحدة أن يعلّق عليها معلّقون ثلاثة: محايدٌ لمَن أراد وصفًا عاديًّا للمقابلة، ومساندٌ يبثّ إلى جمهور الفريق الأوّل، ومعارضٌ للجمهور الأوّل. وهكذا، فما يتحكّم في اختيار المعلّق إنما هو آفاق انتظار الجمهور الذي يُوجَّه إليه البثّ ويُراد إشراكه في الحدث. 

وقد كانت جلّ التعليقات على مباريات كأس العالم في قَطر أقرب إلى تراكيب اللغة العربيّة الفُصحى ومواردها المعجميّة والمجازيّة، لكنها تقوم، في المجمل، على لغة وسطى اجتَرحها المعلّقون ليفهمَها كلّ العرب المتابعين، مع الإبقاء على هامش واسع للهجات المَحكيّة. فَالفارق هيّنٌ في المعجم المستعمَل بين التونسيّ عصام الشوالي والسوداني سوار الذهب، أو بين المصري محمد علي والقطري يوسف سيف، عكس الفروقات الأكبر والتي نَجدها في الفضاءات الرسميّة الأُخرى، كاصطلاحات القانون واختيارات الصحافة.

ينهل من المراجع الثقافية والمجازية في كلّ لغة وثقافة

وهكذا، تستند أغلبيّة التعليقات إلى سجلّ الضادّ الوُسطى التي يفهمها جميع المشاهدين، رغم الحضور الطاغي للمصطلحات التقنيّة في سجلّها الفصيح، مثل: تَسديد، ركلة جزاء، تسلّل... وكلُّها مفرداتٌ ضاربة في العراقة، لا يَشكّ في عتاقتها أحد. وتُرافقها أيضاً استعمالات لمفردات أجنبيّة تقتحم الجُمل العربيّة، على حين غرّة، وهي من معجم المصطلحات التقنيّة لكرة القدم ذاته، مثل: كورنر، وغول.

كما لوحظ، في التعليقات، أثناء هذه الكأس، وربما أكثر من أيّ وقت مضى، امتزاج الحديث الرياضيّ بالسياسة وبمشاكلها الجيو- استراتيجيّة، فلطالما غدا التعليق على سير المباريات استحضارًا لِما بَين دول الفِرَق المتنافسة من صراعات واختلافات، وقد ينجرّ حتى إلى مماهاة كاملة بين الفِرق وسياسات دولها ورؤسائها، مثل ما حصل في اللقاء اللافت بين منتخبَي الولايات المتّحدة وإيران. وليس في الأمر غرابة لأنّ المعلّق يَسعى إلى شدّ جمهوره، إلى درجةٍ تصبح فيها كلماته جزءًا من الفُرجة، لا تقلّ في إثارتها عمّا يَجري في الملعب من تحرّكات.

وقد نشهد خلال التعليق خروجًا عن النصّ الرياضي المَحض واستطرادًا نحو المرجعيّات الثقافيّة أو السياسيّة التي تخصّ الفرق المتنافسة، وهي استطرادات تسمح بها أسماء اللاعبين أو انتماءاتهم الأصليّة وعادات بلدانهم، كما قد تنجرّ عن بعض المَشاهد الطريفة لدى جمهور المتعاطفين الذين يحملون معهم رموزهم المحلّية، مثل ما حضرتْ "الغترة" رمزًا على اللباس الخليجي، والشاشيةُ الحمراء التي ازدان بها الجمهور التونسيّ تذكيرًا بما يرتديه الأهالي من ملابس تقليديّة، وغيرها من الإشارات التي تحيل إلى الحضارة.

وهكذا لم يعد التعليق، كما يوحي بذلك اسمه، مجرّد نقل لواقع خارجيّ، أي: واقع المباراة الدائرة، بل يتجاوز هذه الوظيفة التمثيليّة بأشواط، فصار يؤدّي وظيفة تَحميس المشاهدين، وإفادتهم من خلال المعلومات المتنوّعة حول تواريخ الفرق، ومساراتها الرياضيّة، ومداخيل اللاعبين، عدا عشرات الأرقام التي تنقل عدد الأهداف المسجّلة والمشاركات والخيبات والانتصارات. ويُضاف إلى ذلك إمتاع المُشاهِد - السامع بخطاب يوازي اللعبة ويغذّيها، وقد يعوّضها أحيانًا إذا كان سير المباراة غير جذّابٍ.

وبحكم الطبيعة الشفوية للتعليق الرياضيّ وبالنظر إلى مادّته اللغويّة، فإنه سريعًا ما ينزلق إلى الوظائف التداوليّة، ويصبح سلسلة سريعة من أفعال الكلام التي تتوالى ما بين شَحْن للعزائم، ونقد للفريق المعارض، وتحميس اللاعبين، وتثبيط لعزائم المنافسين؛ أفعال إنجازيّة يغذّيها نظام تناصّ (Intertextualité) يُقام عفويًّا مع كلّ مقابلة: استدعاء لمراجع الثقافة ودمج للرموز والأحداث والتواريخ والأرقام، واسترجاع لأحاديث وتصريحات ومناقشات وحتى "لأسرار"، ما يَجعل المشاهدَ - السامع يتيه في مراحات اللّعبة ولغط التاريخ أمام مشهديّة الفُرجة.

هذه المشهديّة هي في حقيقتها سمعيّة، فنحن لا نرى المعلّقين إلا لمامًا في لقطات عابرة، ولكنّ أصواتَهم ترافق كلّ الحركات، تُوازيها، تَستعيدها في إيقاع دقيقٍ. فمع كلّ لمسة للكرة ترتجّ الأصوات وتهتز في جَرَيانها توتّرًا أو انبساطًا، فيغدو النطق وما يرافقه من نبرات حماسة أو إحباط بمثابة حكاية ثانية تضاهي حبكة اللعبة بشخوصها (من لاعبين وحكّام وجمهور). وتتأكّد هذه السيمفونية أكثر خلال تلك المباريات التي خاضتها الفرق العربيّة، وآخرها فريق المغرب، حيث لم تقلّ إيقاعات التعليقات جماليّةً وتكاملًا مع سير المباراة. هي جدلية اللعب والكلام في أحكم خِطّة: أليس التعليق لُعبة خِطاب؟


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون