الأسئلة الباردة للفنّ

الأسئلة الباردة للفنّ

17 مارس 2021
مقطع من عمل لـ عناية البخاري (طباعة شاشة حريرية على قماش)
+ الخط -

لم تتوقف أوساطٌ سوريّة عن تكرار أسئلة مرتبطة بالكتابة طوال عشر سنوات، أسئلة تتجاوز المأساة أو تحيّدها جانباً. مثل: أيّها الروائيون، لماذا تكتبون؟ ومن أين تأتون بالجرأة؟ وماذا سوف تفعل الكتابة لأجل الضحايا؟ لكنّ الأسئلة الأكثر بروداً هي تلك التي كانت تبحثُ عن الفنّ فيما يُكتَب. طوال تلك السنوات بقي جزءٌ من السردية السورية عالقاً في دوائر متقاربة.

وبدا أنّ الجميع يريدون أن يَرْووا شهاداتهم، وهذا نداءٌ لربما يخفي أنّهم سوريون وبعضُهم لم يشاركوا باستخدام أجسادهم الحقيقية في الحدث الذي ليس بوسع الكلمات المحدّدة توصيفه. هذا العزوف أو عدم القدرة على المشاركة الجسدية في الحدث هو مسوّغ للكتابة عنه. 

لسنواتٍ والسوريون يحكون ويحكون عمّا أصابهم، لكن حقيقةً أخرى نمَتْ إلى جوار المأساة؛ إنّ سماعهم لم يعد أمراً مرغوباً لدى الآخرين، فالمأساة التي مضت عليها عشر سنوات لم تعد تعني غيرهم. بدرجةٍ ما، انتزع الزمن قدرة الآخرين على التعاطف مع حكاياتهم. وهذا أمرٌ يشغل عدداً من المهتمين، الذين يتساءلون بين جائزة وأخرى عن غياب الرواية السورية التي أخذت فرصتها في سنواتٍ تلت عام 2011.

بدا أنّ الجميع، في سورية، يريد أن يَرْوي شهادته

لكنْ بالعودة إلى الأسئلة الباردة، قد لا يجد كثيرٌ من الذين "تورّطوا" في الكتابة عن حدثٍ مشتعل، عن مأساةٍ غير منتهية، ما يفسر موقفهم فنيّاً أمام ناقد يقبعُ بين الكلمات في قلبِ الفنّ الخالد. كأنّما كلّ كتابةٍ صارت شبهة. فالحدث، لفداحتهِ، أكبر من الكاتب. لكلّ رواية من الروايات التي تناولت الحدث المشتعل زاويةٌ تعني بالدرجة الأولى كاتبها؛ المأساة دخلت حياة الجميع، وجعلتهم يستعجلون طلب النجدة. لكن ثمّة مَن قرّر أن يبقى جالساً وسط الحريق، يختار الثوب ويُفاضل بين الألوان.

وبالنظر إلى كتابة حدث أكبر من الجميع مجتمعين، يمكن أن نفسّر الرغبة بأن يقول كلٌّ ما لديه، إمّا سرداً أو نقداً للسرد. إذ ينقسم السوريون إلى جماعتين؛ واحدة تكتب وأخرى تأخذ على الذين يكتبون. واحدة تنادي بالفاجعة وأخرى تنادي بالفنّ، وبين هاتين الجماعتين قد تسرّبت السنوات. الجميعُ باتوا عالقين وينظرون إلى الحدث كلّ من خندقه، فيما الدماء تنسلّ إلى الصفحات، ومن ثمّ تملؤها.

يوجدُ رأيٌ نما بين الجماعتين، وربّما يجيء من خارج الفنّ، لكنه، في الوقتِ نفسهِ، يجيء من داخل الوجدان السوري. إنّ السوريين الآن شعبٌ يمتلك رواياتٍ، من التنوّع والاختلاف، لا يمكن لأيّ منتصر دحضها. لقد نجحت الرواية السورية، في جانبٍ من جوانب اختصاصها، في أن تساعد الناس على قول حكاياتهم. أمّا سؤال الأدب القديم؛ كيف نكتب؟ لا، ماذا نكتب؟ فإنّه يتركنا أمام روايات كثيرة بأسفٍ بالغ.

يدور جزءٌ من الرواية السورية حول أسئلة من نوع مؤلم؛ لماذا اعتقلوا هذا؟ ولماذا قتلوا ذاك؟ وتبدو نصوص كثيرة متقاربة، رغم تنوّع حكاياتها، لأنّ كُتّاباً كثيرين كانوا ينظرون، بالعين الفنّيّة نفسها، إلى حدثٍ ميزتهُ الأكيدة أنّه شاسع وبليغ ويحدث على جغرافيا متنوّعة وغنية. بدا أنّ السوريين يريدون أن يسجلوا كلّ ما حدثَ معهم، كلمةً كلمة، كي يرفعوا تقاريرهم إلى جهة ما. وهم إن كانوا بذلك أمينين تجاه المأساة التي عاشوها، فالفنّ قد تجاوز جزءاً من سرديتهم.

يتوهّم الفرسان العيش في محكمة الضمائر، غافلين عن محاكمات الأدب. هذا مفهوم، وربما يجد مسوّغهُ في كونهِ مؤقّتا. لكن، إن كان ممكناً قول شيء يمسّ مسألة بهذه الحساسيّة، ينبغي علينا الآن التفكير بالخروج من المؤقّت، فالمأساة باتت تطالب بشكلٍ يضاهيها.


* كاتب من سورية

المساهمون