"الآن بدأت حياتي" لسومر شحادة: حبكة بوليسية لواقع سوريّ يتفكّك

"الآن بدأت حياتي" لسومر شحادة: حبكة بوليسية لواقع سوريّ يتفكّك

09 ابريل 2024
سومر شحادة (خليل سرحيل)
+ الخط -
اظهر الملخص
- "الآن بدأت حياتي"، رواية بوليسية تنقل القارئ في رحلة عبر الشخصيات والأحداث، معالجةً قضايا العدالة والقوة في الواقع السوري والفلسطيني، وتسلط الضوء على الجوانب الاجتماعية والأسرية.
- تبرز الرواية كمنبر للتعبير عن القضايا الإنسانية، متناولةً مواضيع القهر والإبادة والصمت الدولي، وتعكس تأثير الأزمات على الفرد والمجتمع.
- تدور أحداثها خلال يوم وليلة، مركزةً على انتحار يوسف، المحامي، وتتحول إلى تحقيق في الأسباب والدوافع، مكشفةً عن التعقيدات النفسية والاجتماعية للشخصيات.

قراءة رواية "الآن بدأت حياتي"، الصادرة حديثاً عن "دار الكرمة" في مصر، للروائي السوري سومر شحادة (1989)، تُشبه الجلوس على مقعدٍ في صالة السينما، ومن ثمَّ الشروع في مشاهدة الفيلم الذي كتبه وأخرجه الروائيّ نفسه. فهُنا يُمارس شحادة هذا الدّور الذي يُتقنه، لدرجة أنْ تصير الرواية المكتوبة والتي تبدأ بالكشف عن نفسها وأسرارها من أول صفحةٍ إلى آخرها، بأشخاصها وأحداثها وأمكنتها؛ فيلماً، يُمكن مشاهدته عبر السرد وعيش أحداثه عبر كاميرا الروائي التي ستتنقل ما بين ظواهر الشخصيات وبواطنها.

قريباً من الرواية وثيمتها والكتابة عنها، فإنَّ شحادة المشغول بالواقع السوريّ في رواياته، هو في جانبٍ آخر، إنسانٌ مشغول بالواقع الفلسطينيّ في مقالاته، فمنذ بدء العدوان على غزّة وحتى اليوم، صمتتْ كثيرٌ من الأصوات التي من المفروض أن تعلو، وعَلت الكثير من الأصوات التي هي أساساً عالية، ومنها صوت صاحب "منازل الأمس" (2023) الذي ظلَّ بمقالاته الدوريّة، يقرأ الواقع الفلسطينيّ ويتتبَّع عمليّة الإبادة التي تجري على مرأىً ومسمَعٍ، ومثلما أنّ الروائيّ هو صوتٌ للمجتمع والبيئة التي ينتمي ويعيش، فهو في جانبٍ صوت الإنسان في كلِّ مكانٍ، الإنسان الذي يُقهَر ويُباد ولا صوت له.

يبرز سومر شحادة كمشروعٍ روائيٍّ جادّ في الساحة السوريّة والعربيّة، وتصبّ اهتماماته في الدرجة الأولى على العائلة السوريّة، ومن ثمَّ المجتمع، وتفكُّكه وصدماته في ظلِّ ما يعيشه من ظروفٍ تُساهم في تغييره بحسب ما يمرّ به من مآسٍ ومصاعب، بدءاً بالحرب المُنهِكة، وليس انتهاءً بالظروف الاقتصاديّة الخانقة، وهي بالتالي مُسبِّبات تلعب دورها في حياة الناس، تصرّفاتهم ورغباتهم وتؤثّر بالنتيجة في حياتهم الشخصيّة.

رواية من مشروع سردي يقرأ مصير العائلة السورية في ظلّ الحرب

تستفيد "الآن بدأت حياتي"، وهي رابع روايات صاحبها، من شكل الرواية البوليسيّة التي تجري أحداثها بسبب جريمةٍ ما والبحث عن خيوطها وكشفها، لكنَّها لا تنهمك في هذا الجانب فقط، وليست غايتها، كما نتبيَّن، أن يعيشَ القارئ أحداث الجريمة والتحقيق فيها وحياكة مُسبِّباتها وتلبيسها بأشخاصٍ لا علاقة لهم بها؛ بل تذهب إلى الكشف لا عن غياب العدالة في مجتمعٍ تحكمه القوّة فحسب، بل عن حضور العدالة ذاتها، ولكن بالطريقة التي تُريدها السلطة، أيّاً كانت هذه السلطة. ثمّ تكشف الرواية عن جوانب اجتماعيّة أُخرى، منها العلاقات المُتعدّدة التي يُمارسها الرجال مع نساءٍ أُخرياتٍ في ظلِّ وجود الزوجة، ومنها تأزّم علاقات الزوجات مع أزواجهنّ، وما قد تُثيره مسألة عدم الإنجاب وتأخُّره والتي تعدّ من المشاكل الأُسريّة الحسّاسة في مجتمعاتنا، بالإضافة إلى مشاكل الانفصال والتفكُّك والوحدة.

تجري أحداث الرواية في فترةٍ لا تتجاوز اليوم والليلة، خلالها تحدث "الجريمة" التي لم يكن يتوقّع حدوثها أحدٌ، ويجري التحقيق في الحدث، والتعرّف على شخصيات الرواية وعلاقتها ببعضها، حيثُ يجتمع الأصدقاء في بيت الشخصيّة التي ستكون محور الرواية، وهو يوسف، المُحامي الذي يُقيم احتفالَ توديعٍ قبل سفره بيومٍ إلى أميركا هو وزوجته، بعد انتظارٍ دام طويلاً، لكنَّ ما سيُبعثر كلَّ المخططات هي المفاجأة التي ستحدث: انتحار يوسف. فماذا يعني أن ينتحرَ شخصٌ في ليلة سفره إلى أميركا، ولماذا قد يفعلُ ذلك؟

الصورة
الآن بدأت حياتي - القسم الثقافي

نبدأ الرواية التي تتوزَّع على ثمانية فصول، بالتعرُّف على شخصيّاتها التي ستُحدِّثنا عن نفسها وعلاقتها بما حولها، فيما يشبه المشاهد الاعترافيّة القصيرة التي توثِّقها كاميرا في غرفة التحقيق، وهي اعترافاتٌ صريحةٌ لأشخاصٍ لا يجدونَ من داعٍ للمُكابرةِ، كأنَّه حديثٌ للمرء مع نفسه.

فنتعرّف أوَّلاً على إياس، الذي يعيشُ وحده في شقّته المُبعثرة، منفصلاً عن زوجته وبعيداً عن ابنه، وفي داخله استذكارٌ مستمرٌّ لحياته السابقة التي تبدو من حديثه أنَّه لم يتخلّص من آثارها وما زال عالقاً فيها. ثمَّ شخصية لين، المُربكة والمُحيِّرة بحالتها النفسيّة وطريقة عيشها وتفكيرها، فهي تعيش بمفردها وتشكو من الوحدة التي ستبدو أنَّها ثقيلة عليها، وتربطها علاقة برجلٍ متزوّجٍ تصفها بالمريحة. ثمَّ ريما، وهي زوجة يوسف المحامي، إذ كان من المُقرّر أن ينتقل كلاهما إلى أميركا للعيش والاستقرار، حيث نكتشف في ريما المرأة التي كانت رغبتها الأولى هي الحمل والإنجاب، إذ إنَّ تأخُّر حملها هو ما جعل من علاقتها بزوجها غير طبيعيّة، فهي في حديثها تبدو امرأة نادمة على تأخّرها في الإنجاب، لتكون مضطربة أمام فكرة السفر التي خدشت طمأنينتها وأربكت حياتها، مع رجلٍ مُربِكٍ أصلاً.

بعدها ناديا التي ستحدّثنا عن علاقتها بريما، وهي أُمّها التي ستكتشف أنَّ العلاقة بينهما كانت مُزيَّفة، ولكنها كانت تُحافظ عليها من الخارج كي تبقي على علاقة الأمّ بالابنة، غير أنَّ السفر هو من عَرّى تلك العلاقة وكشف عن حقيقة أنَّ كلّ واحدة منهما تُحبّ الأُخرى ومتعلّقة بها. ومن ثمَّ شخصيّة نهاد، الأب العاجز الذي كان راغباً بسفر ابنه يوسف، وشارك في الحفل ببيجامته وجلوسه في الزاوية. تلي هذه الشخصيات الرئيسيّة، شخصية نذير، الرجل الغامض الذي سيكون دوره في صناعة الأحداث مُبهماً ومؤثِّراً في آن، وهذا ما سيلاحظه القارئ.

تتحوَّل عملية الانتحار هذه، إلى جريمةٍ، بفعل صدور بيان وزارة الداخليّة الذي جعل هذا الحدث الغريب يدور في فضاء الجريمة العامة، ممّا يُوحي بأنَّ هناك من أقدَم على جعله ينتحر، أو تعمَّد فِعْل ذلك. ممّا يؤدّي إلى تدخُّل السلطة بمحقِّقيها، لخوض غمار التحقيق والكشف عن المُلابسات، وهُنا تظهر الطريقة التي سيتعامل بها هؤلاء مع الحدث، وخضوعهم لتأثيراتِ طرفٍ آخرٍ وخضوعهم لمنطق القوّة واختراعهم لسيناريوهاتٍ تُناسب رغباتهم في سبيل الخلاص إلى مُرتكِب الفعل.

في إطار الجريمة، وأي جريمةٍ يُمكن أن تحدث في الأرض، تقفُ "العدالة" مع القويّ، هذه إحدى الخلاصات الأساسية التي تقترحها الرواية التي تجري أحداثها في مدينة اللاذقيّة السوريّة. إنها تنساق خلف القويّ الذي يُوْجِدُها ويُوجد أسبابها. هكذا يجب على الجميع أن يصدّقوها، لأنَّها تصدر من سلطةٍ عليا، صار سهلاً أن تُلصق الجريمة - أيّة جريمة - بأيّ أحد. هكذا تصير قراءة عنوان "الآن بدأت حياتي"، هي بداية الخلاص لحياةٍ تداعت وانتهت.


* شاعر من العراق

المساهمون