شائعٌ وغنيّ عن القول أنّ الثقافة تحملُ تصوّراً شاسعاً عن الحياة بما فيها من حقائق التاريخ وعلوم الاجتماع والفلسفة وغيرها. ويصعب حصر الثقافة في صورة محدّدة من التعبير، وحجبها عن صورٍ أخرى. كما لا يوجد تحت الشمس من ممارسات البشر أو شرائعهم ما لا يمكن إدراجه تحت مسمّى الثقافة.
في النزاعات، وفي الحروب الأهلية بصورة خاصّة، كثيراً ما يسارع النّاس الذين خذلتهم السياسة إلى الثقافة، ويطلبون من ممثّليها أو من المشتغلين في حقلٍ من حقولها أنْ يُبدوا رأياً، كي يساعدوهم على فهم حدث الحرب أوّلاً، وعلى قراءة ما يليه ثانياً. وفي سورية على سبيل المثال، دفع خلوّ الفضاء العام تقريباً من المثقّف المشتبِك بالناس، إلى طلب الرأي من فنّانين قد لا تتعدّى ثقافة بعضهم ما قرأوه في سيناريو المسلسلات التي أدّوا أدوارها. ودفع بفنّانين إلى الانضواء تحت قوى العمل السياسيّ، ثمّ ما لبثوا أن انفضّوا عن السياسة لأسباب مختلفة، لربما المشترك فيها هو غياب الأهلية.
لكنّ اللجوء المستميت من قبل الناس إلى الثقافة بمعناها الواسع، يخبئ وراءه تصوّراً يشبه الرجاء بأنّ المثقّف يجب أن يكون نظيف اليد من السياسة، وهذا تصوّر حالِم وغير واقعي تجاه العالم الذي نعيش فيه. فالجميع، وربما من غير استثناء، قد يخضع إلى شكلٍ من أشكال التأثّر من قوى أكبر منه شكلّت وعيه.
وفي الحديث عن الحروب، فالحرب حدثٌ يفتّتُ الوعي ويفصم الذاكرة. ومع انتهائها تجيءُ ثقافةٌ أنتجتها الحرب، وتحلّ نخبة جديدة مكان النخبة القديمة. هذا استبدالٌ حتميّ. خصوصاً عند الحديث عن حروب طويلة، فالنخبة القديمة تذهب مقولاتها أدراج الحرب الآفلة.
تأتي الثقافة بعد الحرب، لترصّ الصفوف أو لترمّم المأساة
من خلال لجوء الناس إلى المثقّف أو إلى المُشتَغِل في حقل من حقول الثقافة، فإنّهم يقصدون اللجوء إلى الثقافة أساساً. ولكنّهم قد يتعرّضون إلى كلّ ما تعرّضوا له وهم يستمعون إلى الناطق العسكري. إنّما بنبرة مختلفة، ناعمة. فالمثقّف ليس نظيف اليد بالضرورة، وقد يساهم في حشد الناس في جبهة ضدّ أخرى، وقد يكون ضحية لأيديولوجيا وناجياً من أيديولوجيا نقيضة. وليست المسألة، عندما تعلو صيحات القتال، إلى مَن نلجأ ليخبرنا ما هو الصحيح، وما هو الخطأ؛ لربما يكون السؤال الأكثر دقّة: أيّ ثقافة نريد ولأيّ حرب؟
أي، إنّ الحرب تأتي أوّلاً، وتالياً يتنادى المثقّفون إلى الخنادق. باعتبار أنّ الحرب نداء غريزيّ يدعو إمّا إلى الهجوم أو إلى الانكفاء، ويتغلّب على الحسّ العقلاني الذي له أدوات في السلوك، قد تكون الحرب من ضمنها، لكن ليست ولا ينبغي لها أن تكون الأداة الوحيدة.
في الأحوال كافّة، عندما تحين الحرب، يطغى نداء القتال على مفردات السياسيّين، وحتّى على مفردات الكثير من المثقّفين ممّن تخدمهم ظروف الحرب بوجه من الوجوه. بالتالي، مَنْ ينخرط بشكل فعليّ في القتال ويصبح قلقاً مصيرُه وبلا مأوى، يجد نفسه يبحث عن نخبة لم تخذله، ولم ترمِ به إلى التهلكة. آنذاك، ومن واقع الهزيمة الإنسانية التي تمثّلها الحرب أيّما تمثيل، تظهر الحاجة إلى نخبة جديدة قد تتهالك بدورها في حروب قادمة. حيثُ يتردّد السؤال عبر الأزمنة: أيّ ثقافة نريد ولأيّ حرب؟
فالثقافة، بكلّ ما تتّسم بهِ من اتّساع وشمولية، ليست إلّا بيدقاً بيد السياسيّين، لها ما للحرب وعليها ما على الحرب. ولا تخلو هذه الصورة القاتمة من مثقّفين كانوا قادرين على أن يطالبوا بوقف الحرب، لكنّ الحروب كانت تستمرّ إلى أن تحقّق أهدافها. فالحرب أوّلاً، والثقافة تالياً؛ إمّا لترصّ الصفوف أو لترمّم المأساة.
* كاتب من سورية