أطفال الندى (7): وألمحُ شيئاً من الحيرة المُعذِّبة

أطفال الندى (7): وألمحُ شيئاً من الحيرة المُعذِّبة

25 يونيو 2022
مشهد لمدرسة قرية الطنطورة الفلسطينية التي هجّر الاحتلال الإسرائيلي أهلها عام 1948
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "أَطفال الندى"، أبرز أعمال الشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في أيلول الماضي، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد" وأحد أبرز كُتّاب فلسطين والعالم العربي.


وأسألُ أمّي ذلك التمثال الحجريّ الذي فاجأني بهرمهِ ذات يوم، وقد ذهبتْ قوّته وقوّة صمته فصار هشّاً تقريباً:

-"أتعرفين دوروثي غرود؟ أسمعتِ بها؟"

فتلتفتُ بغضب وكأنني نطقتُ بشتيمة:

-"ماذا؟"

فأقول:

-"هي عالمة آثار... ربّما صادفتِها ذات يوم وأنتِ عائدة من بئر الهرامس صاعدةً إلى أمّ الزينات... كانت تحفر في مغارة الواد قريباً منكم"

وألمحُ شيئاً من الحيرة المُعذِّبة على وجه أمّي ومسحةً من الخجل، فأخجل من خشونتي وغموض سؤالي، فأضيف:

-"قرأتُ عنها في الكتب"

فتقول:

-"يا ولدي... أنتم تعرفون أكثر مما نعرف، فأنتم تقرأون. ونحن كنّا أناساً لا قراءة ولا كتابة. كان يأتي إلى بلدنا منذ وعيتُ أناسٌ كثيرون... إنكليز وروس... أخوك كان يرطن معهم"

وأسألُ:

-"أتعرفين ماذا كانوا يريدون؟"

-"كانوا يتجسّسون حتى يأخذوا بلادنا... وأخذوها"

ولكن دوروثي غرود هي التي عرّفتني كيف كنتم تحتضنون أمواتكم فلا تسمحون لهم بالنوم خارج المغارة أو البيت. وإن  تكاثروا وضعتموهم قريباً من عتبة الباب. وهي التي عرّفتني بأن عاداتكم في سكن الجبال والارتفاع إلى الأعالي لم تغادركم منذ عشرة آلاف سنة. 

كنّا نحفظ حتى أمواتنا معنا حتى لا يسرقهم أحد ويدّعيهم لنفسه

لقد اختار "بعل" سكن المرتفعات... ومن مكانه ذاك حين كان ينحدر، كان ينحدرُ معه الخصبُ والربيع لينتشر على وجه الأرض. أي أرض كان يسكنها سكّان الأعالي الذين قدّسوا الرقم 7... سبع سنين وسبع سنين... وحين قاوموا الجفافَ قاوموه باسم الكون كلّه.

أتعرفين ماذا كان ذلك الشيخ العرّاف... الشيخ حمزة؟ ذلك الذي كان حين يقف قريباً من قمّة الكرمل، تتحرّك أمام عينيه إلى الغربِ سفنُ الصليبيين وراياتُ الرومان واليونان... وتأتيه من القرى المسوّرة عطايا الفلاحين لإقامة احتفال العام الجديد

الشيخ حمزة الذي أنكرتهُ قراراتُ الأمم المتّحدة وحسبوه كاهناً يهودياً لم يكن يهودياً، ولا عرف ما هي اليهودية التي يتحدّثون عنها... إلّا من تلك الأخبار المُقبلة من القرون السحيقة... والتي لم يتحقّق أحد من كذبها أو صدقها... هذا الشيخ ربّما لو كان حيّاً لحدّثني عما فعلته دوروثي غرود... ولربّما كان شبحاً يتابعها وهي تنقّبُ في مغارة الطابون أو مغارة السخول أو مغارة الواد. وكانتْ تحاول أن تبعدَه عن بصرها هي المحتشدة بخيالات التوراة... وتنسى ظلّه الثقيل المُمتدّ فوقها وهي منكبّة على الصخور تقلّبها.

"آه... كانتْ هناك مغارة سيدي المجاهد. وحين كنّا صغاراً نطلّ من بابها... نشاهد المجاهد راقداً يغطّيه دثارٌ أخضر، وعلى وجهه منديل"

وتواصل أمّي التذكر:

"كان من المجاهدين... وبعد استشهادهِ وضعوهُ في المغارة فظلّ كما هو... وحين كان أحدٌ من الناس يتجرّأ ويحاول رفع المنديل عن وجهه لم يكن يستطيع، فالمنديلُ يلتصق بالوجهِ تماماً"

ويعلّق والدي:

"المغاورُ مليئة بالمجاهدين"

ويتحرّك في خيالي عددٌ من الصغار يدخلون مغارة تتّضح على جدرانها آثارُ الحفر والكشط. أحدهم يتناول عظماً أو جمجمة... وتغيب الصورة... وتظلّ معلّقة في فضاء ذلك الزمن الذي يذهب دائماً... ولا يأتي.

إنّ الأشباحَ التي تزور الفلاحين أكثر عدداً من الأحياء... وربّما كان السبب هو أنهم لم يكونوا يسمحون بدفن أمواتهم بعيداً عن عتبة الدار... ولئن بدأ هؤلاء بعد قرون بمغادرة البيت، والانتشار في كلّ مكان، فقد أصبح العويلُ قافلة تحيط بقُرانا المسوّرة بالأسوار الحجرية ثم بالسناسل... تشاهده مُتلوِّياً... ومتمدّداً كما لو كان طقساً لا بدّ من إقامته دورياً.

وفي إحدى الزيارات ذات المغزى يتنبّأ الجدُّ لحفيدهِ بسنواتٍ من الرخاء والجدب... أو يدلّه على جرّةٍ مدفونة ظلّتْ في أصل زيتونة... أما نحن فقد غادرنا الأجدادُ منذ زمن طويل... ولم يعد أحد يتذكّر هؤلاء الذين انحدر منهم إلّا كأشخاص من الماضي... أولئك الذين سكنوا هذه الجبال أو تركوا هذه الكنوز... أو بنَوا هذه الآبار وهذه الأحواض الحجرية لتجميع مياه المطر.

وتهزّ رأسها أمّي حين أفتح كتاباً وأرفعه أمامها قائلا:

-"أليس هذا الفستان هو نفسه الذي كنتم تلبسونه في أيام البلاد؟"

وتحدّقُ في الصورة بين مصدّقةٍ ومكذّبةٍ:

-"نعم إنه مثل فساتين بلادنا"

-"أتعرفين أنّ هذه الصورة تمثّل امرأة فلسطينية عاشت في فلسطين قبل ستة آلاف سنة؟"

-"كلُّ هذا صحيح، إنّ الذين يكتبون يعرفون أكثر منّا"

وأضحك متمنّياً أن تدرك أمّي عمقَ المجهول الذي هو شعبنا... رغم كل الكتب الرسمية. وأتخيّل سجلّاتٍ كاملة ومكتبات برفوفها تحترق فجأة فلا يجد علماء اللغاتِ والأجناس والتاريخ ما يفعلونه... إلّا أن يرسلوا إلى كلّ الفلاحين طالبين منهم أن يأتوا ويحكي كلٌّ ما عنده... ليصيرَ التاريخ مرّة أخرى... وهذه المرّة حقيقياً.

كم كنّا أيتاماً في هذا العالم لم يكتبْ لنا أحدٌ لوحاً ولا جعلنا نحفظ نشيداً

وأتخيّل العلماءَ الأفاضل وقد جلسوا وفتح كلٌّ منهم كتاباً أبيضَ في انتظار أن يبدأ الفلاحُ حكايته. ولكن من يتذكّر حادثاً كونياً واحداً؟

لقد قالوا كلّ شيء في الماضي وتخيّلوا بعل وإيل وصنوف الآلهة ورتّبوا أمورهم ثم رقدوا مع الألواح... ممتلئين بالثغرات كما هي الألواحُ الطينية والحجرية وامتلأتْ سنوات أحفادهم بغزاةٍ من كل جنسٍ ولون... قريةٌ تقام فوق قرية... وخربة فوق خربة... وحين أتذكّر الأسماءَ الكِنعانية العجيبة... ولكنِ المألوفة للفلاحين... بيت دجن وعين شمس والكرمل وعين جالوت والدالية وعين حوض والياجور وأمّ الفحم... أصابُ بالدهشة من هذه القرابة الحميمة بين أصواتٍ نُطقتْ قبل آلاف السنوات... وأصوات هذا اليوم التي أسمعها. 

ترى هل يعيش في لغتنا وأزيائنا وطقوسنا كلّ هذا الماضي ولا نكتشفه تحت القلبِ تماماً؟ أو عند ذلك المُنعطف من الجبل؟ أو تحت هذه الدالية؟ ولماذا لا يكون كلّ هذا مساوِقاً لنا في الزمن، ولكنّه يعيش في غابة تحجّرتْ واختفت الطرقُ إليها؟

إنّهم ينتظرون حركة ما في السكون، إشارة... ويستيقظُ كلّ شيء، ولكن من يوقظهم وقد توقّفتِ الأحلامُ عند مغارة سيدي المجاهد... وما عادت تعرف أنه على مقربة امتلأت المغاور بالأقرباء والأهل، بسكّان الماضي أولئك الذين حضروا الفاردة وحرثوا الأرض ودرسوا القمح نفسه الذي نأكله.

هل نحن مسروقون من ذاكرتنا أم العكس؟ تخطفنا الأشباحُ التي تخطف الأطفال والأبطال الصغار عادةً ليعودوا بعد ذلك إلى بلادهم... ويتسيّدوا.

"هل تعرفين دوروثي غرود يا أمّي؟"

أنا متأكدٌ أنّها لا تعرفها. وإن عرفتها فلربّما كتبتْ دوروثي غرود في مذكّراتها شيئاً عن لقائها بفلاحة شابة نظرت إليها باستغراب وهي تشاهدها ببنطلونها القصير وقبّعتها الضخمة ونظّاراتها الطبية، ترافق الرِّجال صاعدة في الجبل. وربّما علّقتِ الإنكليزية بكلمات ضاحكة على منظر الفلاحة التي اتسعتْ عيناها دهشة وهي تبصر عالم القرن العشرين يمرّ إلى جانبها، ولم تعرف ما هو.

إنّ الحجارة نفسها في هذه الغابة تصاب بالهرم. ونكتشف فجأة كم كنّا أيتاماً في هذا العالم لم يكتبْ لنا أحدٌ لوحاً ولا جعلنا نحفظ نشيداً.

"كنّا نتعلّم بالشحبار والقصب. هذه هي تركيا وأيام الأتراك"

لم تغادركم عاداتكم في سكن الجبال والارتفاع إلى الأعالي منذ عشرة آلاف سنة

لهذا السبب كان والدي يكتب في دفتر حساباته وصل بدل واصل، وينشد أشعاراً غامضة عن أبو زيد الهلالي وصديقه ذياب. ولا أفهم هل كان يتحدّث عن أناس يعيشون بجوارنا...أم ماذا؟ وأغلب ظنّي أنّه كان يعرف هؤلاء معرفة أكيدة... وإلّا فكيف حفظ أسماءهم؟ ولماذا كان يردّد أشعارهم؟ وما أهمية هذا كلّه؟ هل له علاقة بفلسطين؟ ومع ذلك فقد كان التعليم بالنسبة لأبي مقدّساً.

قال لي مدير المدرسة أو قال لطفل بجانبي، وأنا في مستهلّ سنتي الأولى في المدرسة: "لولا عيون أبيكَ ما رأيتَ هذه الكتب"

ولم أُدرك إلّا فيما بعد مغزى هذه العبارة. فقد فهمتُ فيما بعد أنّ والدي استاء جدّاً من المدرسة التي تعلّم الأطفالَ بلا كتب، فظلّ يُلاحق المدير حتى أجبره على توزيع الكُتب على الأطفال. ونلتُ نصيبي بفضل إلحاح والدي. وأتساءل... لو لم يحدث ذلك، هل كان المدير سيُبقينا بلا كتب؟ وهل كنتُ سأصل إلى معرفة أن دوروثي غرود جاءت إلى أطراف قريتنا ونقّبت في مغاورنا... وعبثَت بعظام أجدادنا؟ هل كنتُ سأصل إلى الماضي بلا كتاب؟ 

كم نحن أيتامٌ بشكل فادح... بدون هذه الرحلة عبر آلاف المصائد وخاصة مصيدة التوراة التي نسجت رواياتها على أطراف بلادنا... في صحراء بعيدة عن مكان لا يعرف إلّا الشيطان وحده في أيّ بلاد كان... ولكنّه ليس فلسطيننا بالتأكيد... ليس أمّي ولا الشيخ حمزة ولا الحاج القطروز ولا هذا الجبل. فقد كنّا نحفظ حتى أمواتنا معنا حتى لا يسرقهم أحد ويدّعيهم لنفسه.

فليتبنّ الشيطانُ هذه الأسماء العجيبة هيرتزوغ وفايغن وبرودفسكي ولوين... فحتى التوراة لا تعرف هذه الأسماء... ولم يمرّ أصحابها في ذاكرة صخرة أو طريق من طرق بلادنا.

المساهمون