أباهر السقا.. تاريخ غزّة الاجتماعي قبل 1948

أباهر السقا.. تاريخ غزّة الاجتماعي قبل 1948

09 نوفمبر 2023
أباهر السقا
+ الخط -

عام 2018 صدر عن "مؤسّسة الدراسات الفلسطينية" ضمن سلسلة "المدن الفلسطينية" كتاب الباحث أباهر السقا بعنوان "غزة: التاريخ الاجتماعي تحت الاستعمار البريطاني 1917 - 1948"، الذي كان موضوع حلقة بثّها الأسبوع الماضي بودكاست "عفكرة"، عبر قناته على يوتيوب، قدّمها الباحث نفسه وحاوره فيها عمر ذوابة. 

انطلق السقا في حديثه من تفكيك صورة تختزل المدينة، إمّا بالبؤس والاكتظاظ السكاني أو مخيال البطولة الدائمة. ما يجعل الناس لا يعرفون كثيراً، حسب الباحث، عن علاقة المدينة بالنكبة مثلاً، كون المختصين يركزون فيها على مدن الساحل أو القدس، وتم تهميش التاريخ الاجتماعي لغزة. كذلك عند الحديث عن الحداثة المتأخّرة تُستثنى غزة، أو عند التطرّق إلى موانئ فلسطين، لا نجد ذِكْراً مُهمّاً لمينائها. وبالتالي تُختصر المدينة بتاريخها السياسي، بحُكم ما تعرّضت له من موجات لجوء بعد 1948. ولفت الأستاذ في "جامعة بيرزيت" إلى أنّه عاد في مصادره إلى الأرشيف الأهلي، والوثائق الخاصة وتراجم العائلات، وكذلك الأرشيفين البريطاني والفرنسي. وعليه فالكتاب، حسب وصفه، لا ينطلق من التاريخ العام، بل المُصغّر (المايكرو). 

وانتقل السقا إلى النظر في "ثنائية البؤس والبطولة الغزاوية"، موضّحاً أنّها أقرب ما تكون للمخيال، فحي الشجاعية، مثلاً، أخذ تسميته نسبة إلى أحد قادة المُسلمين التاريخيين. وفي القرن العشرين لا ننسى أنّ الاستعمار البريطاني حاول الدخول إلى غزة من بوابتها الجنوبية، أي رفح، ومحاولاته تلك كبّدته الكثير من القتلى بين صفوفه، ما أعطى "البطولة" بُعداً عميقاً وحديثاً نسبياً. وهذا المثال ينسحب على مراحل أُخرى في حرب 1956 والسبعينيات وحتى اليوم. أمّا بخصوص البؤس فهذا التخيُّل ليس قديماً، كما أوضَح، فـ"لو عدنا إلى الضرائب التي كانت تدفعها المدينة لإدارة الاستعمار البريطاني لوجدناها الرابعة فلسطينياً، وهذا يعود إلى نشاطات اقتصادية مهمة كانت تحدث في المدينة. وبالتالي مخيال البؤس هو قراءة لا تاريخية بشكل من الأشكال".

تفكيك صورة تختزل المدينة بالبؤس والاكتظاظ السكاني
 

وعن الحياة قبل 1917، أشار الباحث إلى أنَّ المدينة كانت منضوية تحت الحُكم العثماني، وقبل ذلك في الفترة المملوكية كانت تُسمى "المملكة الغزّية". وبعض المؤرّخين يرونها العصر الذهبي لها، وعمائر هذه المرحلة دُمّرت للأسف أثناء الحرب العالمية الأولى من قبل البريطانيين. كما أنَّ العثمانيين في آخر عهدهم حوّلوا المدينة إلى خطّ دعم عسكري، وهذا أثّر سلباً في بعض النواحي. لكن مع دخول الاستعمار طرأت تغيُّرات على الحياة اليومية، إذ كان هناك نوع من التقاسم العائلي لجوانب إدارة الحياة، وحضور للقناصل وجاليات من الأرمن واليونانيين، وتجّار هنود وأفغان استقروا في البلدة القديمة. ربّما يُفسّر هذا شيوع التوابل والبهارات في المطبخ الغزّي، وظلّت المدينة تعجّ بالحمّامات والمقاهي. وبحُكم قربها من مصر ونشاطها في التجارة الداخلية تعزّزت فرص تشكيل برجوازية محلّية فيها.

الصورة
غلاف الكتاب

أمّا الميناء، فعلى الرغم من أهميته التاريخية، فإنّه لم يتطوّر مثل ميناء يافا، حسب السقّا، وإن كانت هناك خطة لدى العثمانيين لتطويره. كما نشأت في المدينة مؤسسات حداثية عديدة، وتوفّرت دُور السينما أكثر من أي مدينة أُخرى (أكثر من 10 سينمات حتى بداية التسعينيات)، ومجموعة كبيرة من المؤسّسات الثقافية والمسارح. ومن جهة التخطيط الحضري فإنّ غزة تُشبه يافا، وهذا مُلاحظ، اليوم، ونحن نرى الشوارع الكبيرة والعمارات والأحياء التي يقصفها الاحتلال الإسرائيلي في حربه الوحشية. ويعود التخطيط الحضري إلى جهود فهمي الحسيني (1886 - 1940) الذي تولّى رئاسة البلدية بين عامي 1928 و1939. حيث تمتلك غزة ترقيماً للشوارع والأرصفة منذ العشرينيات، وافتُتح فيها منتزه في الثلاثينيات، وبالتالي نحن أمام تاريخ مديني مهمّ. ولكن على المستوى الزراعي هناك حدث لافت، حين دفع البريطانيون المزارعين إلى زراعة الشعير بدل الحمضيات والزيتون، كون الشعير أمثل لصناعة الجعة، ثم حصلت كارثة عندما قرّر المستعمرون الاستغناء عن الشعير الغزي بآخر من كاليفورنيا.

من ناحية أُخرى، وضّح السقا أنَّ البريطانيين لم يطوّروا شبكة المواصلات كثيراً، وشدّدوا على تقنين العبور إلى غزّة من حيث وضعهم الحدود بينها وبين مصر. وإبّان ثورة 1936 شهدت المدينة صدامات مع بعض المستوطنات التي لم تكن بعد قد انتشرت بشكل كبير في محيطها. كما لفت الباحث إلى أن تسمية "غلاف غزة"، الشائعة هذه الأيام، هي تسمية استعمارية، فالأصح أنها تخوم، كما لأية مدينة أُخرى. وبخصوص الحياة السياسية، فقد ظهرت لاحقاً تيارات فكرية متعدّدة، من الشيوعيين إلى الإخوان المسلمين. وقد زارها في الخمسينيات جان بول سارتر، وتشي غيفارا، وغاندي، بحكم أنّ الناصرية أيضاً لعبت دوراً في هذا.

وأشار السقا إلى موقع غزّة في السردية الصهيونية، حيث تكتسب حضوراً مركزياً في هذه الأسطرة - على عكس المتوقّع - هناك مقولة للمجرم موشيه ديان، عام 1967، "اليوم نثأر لشمشون، الآن نسترد عتباتنا الماضية، ونؤدّب غزة". بمعنى آخر المخيال الصهيوني جعل من المدينة مركزاً لـ"العمالقة والجبابرة"، وهذا يتردد على ألسنة مجرمي العدوان القائم حالياً. ومن المعروف طبعاً أن ديان نهب آثار غزة، وهي موجودة اليوم في متاحف الصهاينة. كذلك تمنّى رابين لو أن الأرض تبتلع غزة.

كذلك لفت السقا في حديثه إلى مشاركة النُّخب بقوّة في مقاومة الاستعمار البريطاني في ثورة 1936، ويُلاحظ ذلك في الحركة الاحتجاجية أنها وطنية عابرة للطوائف، كما لعبت "الجمعية الإسلامية المسيحية" دوراً في حماية الشواطئ من الهجرة الصهيونية، ومراقبة السفن والقوارب القادمة من البحر. ومن ثم مشاركة الغزاويّين بالاشتباكات المسلّحة ضد الجيش البريطاني والعصابات الصهيونية.

مصطلح "غلاف غزة" الشائع هذه الأيام تسمية استعمارية

وشدّد مؤلّف الكتاب على توصيف "الاستعمار" البريطاني وليس "الانتداب"، لأن هذا الأخير ينصّ في مبدأه على طلب، وهذا ما لم تتقدّم به فلسطين إلى بريطانيا أساساً، كما أن تتابع الأحداث التاريخية يُثبت أنه احتلال في بداية الأمر، منذ دخول الجيش البريطاني، الذي مهّد إلى المشروع الصهيوني الاستيطاني ونسف إمكانية قيام دولة عربية أو فلسطينية لاحقاً. فضلاً عن تشجيعه المستعمرين من أماكن مختلفة حول العالم للقدوم إلى فلسطين.

وختم الباحث حديثه بأن الهندسة الاستعمارية الصهيونية سعت جاهدة إلى رسم صورة نمطية عن أهالي غزة، وهذا انعكس على اللغة أحياناً. ففي الإعلام الفرنسي يستخدمون صيغة جمع غير مألوفة في قواعدية اللغة، ليبدو الأمر وكأنه تعاملٌ مع هوية أو خصوصية ما.

المساهمون