آني إرنو.. كتابةٌ تبحث عمّا لا يمكن تفسيرُه

آني إرنو.. كتابةٌ تبحث عمّا لا يمكن تفسيرُه

13 أكتوبر 2022
آني إرنو في تورينو، إيطاليا، أيار/ مايو 2022 (Getty)
+ الخط -

ليس بمقدور أي كاتب أدب عظيم أن يبقى في إطار مدرسة فكرية، حتى لو كان ينتمي لواحدة، ففي حين يخضع التفكير للأيديولوجيا، لا تخضع الكتابة لها. وما أعنيه بالكتابة هو أمرٌ غير مُلزمٍ بقيدٍ عقلانيٍ بدهيّ، فما يقيّد الكتابة هو الكتابة نفسها. إذ تُعدّ قيود الكتابة شخصية في عمقها وذات طبيعة مُفارِقة: ما يُقيّد الكتابة، يُحسّنها. كل الكتابات حُرّة في مبناها. وهذا المبنى ليس موضوعياً ومُحدّداً سلفاً، وإنما مبنىً تُنتجه الكِتابة.

اكتشفت مؤخّراً أعمال آني إرنو، الكاتبة الفرنسية البالغة 82 عاماً، والتي أُعلن فوزها بجائزة "نوبل للأدب" 2022، وعُدتُ إلى ثلاث من رواياتها لأكتب هذه المادة: "المكان" و"امرأة" و"لم أخرج من لَيلي". تأثّرت إرنو بأعمال الكُتّاب الفرنسيين أمثال اليساريّيْن جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار. إرنو نفسها، وباعترافها، نسوية يسارية، وهي هويتها السياسية. يتكشّف العالم الداخلي للكاتبة، الشخصي والسياسي، نهايةً في النصوص التي تكتبها. إنها كاتبة مُلغِزة، وحتّمت عليها حِرفتها أن تأخذها أبعد من التصنيفات السياسية. 

تخترع إرنو في كتاب "امرأة" نوعاً جديداً من الكتابة، حيث ثمّة فصل وانفصال بين المرأة وقصّتها. إذ لا تريد المرأة للقصّة أن تبقى قصّة. ولا تريد القصّة للمرأة أن تبقى امرأة. وتقطن الكاتبة في تلك المسافة بين المرأة والقصة، وهي امرأة طاعنة في السنّ تتذكّر ماضيها. وتُضفي حائزة "نوبل" أمراً جديداً على ما نفهمه ونعرفه على أنه خيالٌ/ رواية:
"مع تقدّمي في السن، تختفي البساطة السابقة للقصّة في الذاكرة، ووصولي إلى نهاية عام 1958 يعني الموافقة على هدم كل التأويلات التي جمعتها على مرّ السنين. دون تغاضٍ. لستُ أبني شخصية خيالية، بل أفكّك المرأة التي كُنتها".

وهذا إعلان راديكالي عن طريقتها التفكيكية في الكتابة التخيلية. تنشد إرنو تدمير أساطير ماضيها (والتي تكون عادة أسطورة الأصول وأصول الأسطورة)، وإقحامها بأدوات تحليلية تكون تحت تصرّفها لحظة الكتابة. لافتٌ للنظر أن نرى الكاتبة وهي تريد تفكيك نفسها السابقة في فعل تفكيك داخلي. كيف تُفكّك إرنو ذاتها السابقة؟

روائية لا تبني شخصية خيالية بل تفكّك المرأة التي كانتْها

تبدأ كتابها "امرأة" بإشارة واضحة لعمل دو بوفوار الكلاسيكي "الجنس الآخر"، حيث تكتب الروائية الفرنسية عن حصارها وعلوقها في تحديقات الآخرين. يُقدم الآخر استحالة التجربة. ليس ثمّة تجربة إذا لم يستطع المرء أن يختبر نفسه فيها، إلّا من خلال ما يُنكِر. يكون الآخر سارتريّاً، شخصية سلبية تسكن العالم الخارجي في أناها الخالصة. لعلّ الآخر هو السيّد أيضاً، الشخص الذي يهيمن، ويحكم الصُورة. يكون الآخر في القصّة رجلاً أكبر بكثير من الفتاة في القصّة، ويوجد "آخرون" في القصة أيضًا. هؤلاء "الآخرون" هم طلّابٌ في معسكر العطلة، نسوا الفتاة التي أطلقوا عليها الأحكام، والتي حاولوا إلحاق ذنب العار بها، "فهي غائبة عن ذاكراتهم".

تعود إرنو إلى طفولتها في عام 1958، وتكتب أنها أرادت أن تنسى تلك الفتاة أيضاً، مثل الآخرين. ولكنها فشلت. الكتابة أوّل الفشل في النسيان. تُنتج المؤلّفة مباشرةً، ومنذ بداية القصّة، موضوعًا منقسماً للكتابة، امرأة أكبر سنًّا تكتب عن الفتاة الأصغر سنّاً التي كانتها، ولكن ليس كما قد تفهم الفتاة قصّتها، أو تكتب عنها. 

الكاتبة مفتونة بالمشروع المؤلم لتذكّر ماضيها وحدها. كانت وحيدة مثل العار الذي أُلحق بها؛ والكتابة هنا تغلّبٌ على عار التجربة، ليس لأن التجربة مخزية، ولكن لأن العالم يقطع علاقتنا بالتجربة ويُطلق عليها أسماء أخرى. الكتابة هنا إعادة تسمية لتجربتنا، حيث نواجه عار المُعايرة بالعار. 

ترغب إرنو، متأثّرة بفيمنولوجيا سارتريّةٍ، في طرح السؤال الفلسفي: "هل لزامٌ عليّ إذابة فتاة عام 1958 مع امرأة 2014 في أنا واحدة؟". تتفهّم آلام الانفصال بين أنا وأخرى، وآلام إلحاق الضمير "هي" بذاتٍ سابقة لها، وتواجه لحظة حرجة عند انقسام ذاتيّتها، والتي في حالتها يحكمها الزمن. يفصل الوقت الفتاة عن المرأة، كما أنه يفتح صدعاً في الفضاء، حيث تحدث إمكانية الكتابة.

تجترح الكاتبة طريقها إلى فعل الذاكرة الذي تريد تفكيكه: "خضوعها ليس له، بل لقانونٍ كونيّ لا مِراء فيه". إن فعل الخضوع، وهو فعل مُقايضة حسّية، يشوبه ما يسبقه ويعترضه، وهو بالنسبة لإرنو الشكل المُؤسطَر للآخر الذكَر، وتفكّك علاقتها بهذه الأسطورة في القصة.

تواجه الروائية في خضمّ إعادة الفرز هذه سؤالاً آخر مهمّاً، فلسفياً وجمالياً في آن واحد: ألا وهو سؤال التسلسل. كيف تُسلْسلُ الذاكرة عندما يرغب المرء في تفكيكها؟ "يمكنني فقط أن أكتب عمّا يحدث بعد ذلك من خلال القفز من صورة أو مشهد إلى مشهد آخر لم يكن في الواقع ليدوم أكثر من عدّة دقائق، ولكنّ ذكراه تمدّدت وانتفخت دون تناسب، كما لو أنه أضيفت مشاهد أخرى إلى الذِكرى".

حتّمت عليها حِرفتها أن تأخذها أبعد من التصنيفات السياسية

أدخلت إرنو بهذا تقنية سينمائية (تجسّدت في الموجة الفرنسية الجديدة) في كتاباتها، حيث تُعيد بناء الذاكرة بخفّة اليد التي تربط بين أوصالٍ لم يربطها انقضاء الزمن. تخبرنا بعد عدّة صفحات في الكتاب، أنها ربما تكون قد تولّت مهمّة كتابة هذه القصّة "لاختبار حدود الكتابة". يجب أن تُفهم الكتابة هنا على أنها طريقة لكتابة الذات، وهي الذات التي تنقسم إلى قسمين بمرور الوقت، حيث تكون لدى الذات المنقسمة مهمة لا تُحسد عليها تتمثل في استعادة آخر[ها]. تشهد إرنو قبل ذلك في القصّة على صعوبة مشروعها: "تقعُ كتابة الذات في شرَك تاريخي: على الرغم من أنها مثّلت لسنوات عديدة دليلاً مادياً على سوء تصرّفي".

لكتابة الذاكرة عند إرنو حدّان: فهي تستعيد ما يجب أن يكون دليلاً على إذلالها. هذا اعتراف بالاحترام البارع المكتوب في فعل الكتابة نفسه. الكتابة بالنسبة لها عملٌ يبعث على الضعف وغير آمن من أخطار الإذلال. وبذا لا تكون الكتابة بمأمن من الحياة ومن أحكام العالم، ولا تكون هذه معضلة تنسحب أمامها إرنو، بل تؤكد:
"ولكن ما الهدف من الكتابة إذا لم تكن كاشفة، أو أن تكشفُ عن أمرٍ واحد لا يمكن اختزاله في أي نوع من التفسير النفسي أو الاجتماعي وليس نتيجة فكرة أو عرض مسبق، بل نتيجة السرد: أمرٌ ينبثق من طيّات الأوراق مع تكشِّف القصة؟".

هذا هو جوهر فكرة الكتابة عندها: فهي ليست فعلاً يمكن اختزاله في العلوم الإنسانية، وليس نتاجاً بارداً لمعرفة موضوعية، وليست فكرة كانطية بدهية. تنبثق الكتابة مع تكشّف القصة وتعريتها. فهي ذلك الكائن الضعيف وابن الإهمال والنسيان الذي يقفز من مخبئه عنوةً.

ويبقى لديّ سؤال بعد كل هذا: هل تعتقد إرنو أن المرأة تعرف أفضل من الفتاة، وأنها أفضل جهوزيةً لسرد قصّةِ ذاتِها السابقة؟ هل يوجد تحيُّز موضوعي بأثر رجعي هنا؟ يُحسب لإرنو أن لديها قبولاً مُركّباً لذلك. تكتب في بداية القصّة: "على الرغم من أنني غير قادرة على استعادة لغة الفتاة، وكلّ اللغات التي تُشكل خطابها، والتي لا جدوى من محاولة إعادة تشكيلها..."، إلّا أنه ليس ثمة استعادة سهلة ونظيفة وممكنة لكلّ ما ضاع في الزمن ومع تجاعيد التجربة. الكتابة فعل ذاكريّ مكسور، وعبر هذا الانكسار تُحافظ على ضعفها.

تتذكّر إرنو، في كتاب "المكان"، أباها الراحل كعاملٍ لم يستطع التكيّف مع العالم عند تقدّمه في السن: "كان عاملاً وصاحب متجر، وعلى هذا النحو، كان محكوماً بحياة العزلة وعدم الثقة، ولم ينتمِ إلى أي نقابة". إنها صورة دقيقة للرجل. تتخذ إرنو قراراً شخصياً برفض أشكال التأثير الفني لصالح "طريقة محايدة للكتابة" عن رجل كانت حياته "تحكمها الضرورة".

تتأمّل في طبيعة كتابتها لهذا الكتاب النحيل: "أكتب ببطء عبر اختياري الكشف عن شبكة حياته من خلال عدد من الحقائق والتفاصيل المختارة، أشعر أنني أبتعد تدريجياً عن شخصية والدي". يُفكك فعل الذاكرة التحليلي موضوعَ الكتابة. غالباً ما تكون هذه الحقائق وصفاً تفصيلياً لعادات والدها الخُلقية ووظائفه الجسدية، بما في ذلك تنفُّسه. تظهر الحميمية بينها وبين أبيها في الاحتفالات الدقيقة للأفعال الجسدية. تصبح الملاحظة سياسةً للذاكرة. تريد إرنو إحياء الرجل العامل من خلال وصف والدها من دون إثارة الشخصية الأبوية فيه.

وتُقدّم الكاتبة في رواية "لن أخرج من لَيلي" كتابةً مؤثرة عن أمّها التي تعاني من مرض آلزهايمر. تكتب في بداية الرواية: "تثير كتابة كتابٍ عن الأم حتمياً مسألة الكتابة". ما المسألة المقصودة هُنا؟ 

الفنّ الحقيقي هو ذاك الذي يعمل على تفكيك الذاكرة

تُفصِّل إرنو حالة اختلال أمّها العقلية والجسدية وانحلالها مثل مراقب منفصل، وتكتب عمَّا يفعله المرض بجسدها. نثرُها غير عاطفي، وواقعيّ. يكمن حبّها لأمّها في ثنايا لغتها، حيث تلتقي الذاكرة بالواقع. لعلّ "مسألة" الكتابة التي تذكرها بشكل خفيّ في البداية تتعلّق بمعالجة علاقة المرء بأمّهِ كتابةً، وما الذي يفصل بينهما، ويجمعهما معاً.

تأتي لحظة تكتب فيها عن الأم: "لن ترتدي الملابس التي تركتها في بيتي مرّة أخرى، والتي يبدو أنها تخصّ شخصاً ميتاً. ومع ذلك فهي على قيد الحياة ويمكنها أن تُشعرني بالذنب". لاحظت إرنو مأزقها المزدوج في سطرٍ واحد: مشاهدة أمها تموت بلا حول ولا قوة، وشعورها بالذنب بسبب وجود والدتها المريض. 

يطارد الشعور بالذنب إرنو مثل الظل: "عندما أكتب كلّ هذه الأمور، فإنني أخربش بأسرع ما لديّ (كما لو كنت أشعر بالذنب)، دون اختيار كلماتي". يعجّل الشعور بالذنب الكتابة لأن المرء يكتب عن الاحتضار. الشعور بالذنب غرفة خانقة تُوجب على المرء أن يمرّ بها في سياق مسؤوليته تجاه الأمّ المحتضرة.

لدى إرنو اهتمام غرائبي بمراقبة طبيعة كتابتها في كلّ مرحلة من مراحل الكتاب، وهي حريصة على فهم ما يفعله موضوع معيّن بطبيعة الكتابة؛ إنها تريد أن تعرف ــ في منتصف الكتابة ــ سبب كتابتها، والطريقة التي تكتب بها حول موضوع معيّن. ويلفت هذا انتباهها إلى الحاضر، إلى اللحظة التي تصبح فيها الذاكرة كتابة. إنها ذكرى يجب إعادة كتابة أصولها لتحريرها من الذنب والعار.

عملية التحرُّر من خلال الكتابة مُركّبة، وتستمدّ الإلهام من مصادر مختلفة. وعندما تذكر إرنو عن سلفها السريالي أندريه بريتون، "النصوص (العصية على التصنيف)، النظرية والشاعرية في آنٍ واحد، التي ليست روايات... أو سيراً ذاتية، بل بحث عن حقيقة فردية، وربما خلاص يمكن لأي شخص بدورهِ أن يخوضه"، فهي تتحدّث عن مهمّة مُوحية تكون مهمّتها هي أيضاً.


* شاعر وناقد وأكاديمي من الهند
** ترجمة من الإنكليزية: أنس أبو سمحان

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون