"الاشتياق إلى الجارة" للحبيب السالمي... الاشتياق إلى تونس

"الاشتياق إلى الجارة" للحبيب السالمي... الاشتياق إلى تونس

11 يوليو 2021
(الحبيب السالمي)
+ الخط -

"الاشتياق إلى الجارة" رواية الحبيب السالمي التي وصلت إلى القائمة القصيرة في مسابقة "البوكر"، تلحق اسمها الذي يكاد يختصرها تماماً. قارئ هذه الرواية لن يجد أكثر من هذا العنوان. "زهرة" الجارة حقّاً هي التي تقطن في البناية نفسها التي يسكنها الراوي، لا يميّزها إلّا أنها من بلد الراوي الأصلي. هي مثله تونسية، لكنها تفترق عنه لأنها خادمة، فيما هو أستاذ جامعي متزوّج فرنسية، وهما معاً ميزتان بالنسبة إلى الفرنسيين والتوانسة. هي خادمة، إلّا أنها مع ذلك تملك شقتها، وتعيش فيها مع زوج تونسي وابن على شيء من الإعاقة. فيما يعيش الأستاذ مع بريجيت، زوجته الفرنسية الموظّفة في بنك وابنهما الذي استقلّ بحياته وغادر البيت.

نحن إذاً في رواية في بناية باريسية وأشخاصها توانسة في الأغلب، الأستاذ والخادمة وزوجها وابنها، مع فرنسيّين هم مدام ألبير التي تتردّد زهرة على بيتها كخادمة، وجار آخر من أصل إسباني، بالإضافة إلى زوجة الأستاذ الفرنسية. توانسة في فرنسا وفرنسيون، الكل في بناية واحدة. ليس بين الجهتين أي تنازُع أو مواجهة، لكن بينهما فوارق في العلاقات والتصرُّفات، فوارق في صميم المعيش وفي اليوميات، لذا ليست في الواجهة لكنها تتكشّف في التفاصيل والحياة الجارية. نفهم من الأستاذ أنه مرتاح لحياته في فرنسا، وصِلته بـ تونس تتضاءل مع الأيام ومع الحياة العائلية، لكنه، مع ذلك، لا يزال تونسياً ولا يزال يمتّ إلى الثقافة العربية التي تشكل كتبها جانباً من مكتبته. هذا لا يمنع أنه، في منزله ومع زوجته، يواصل حياة فرنسية، فهو يتقاسم مع زوجته العمل المنزلي، كما أنه في علاقته بها، بما في ذلك العلاقة الجسدية، يواصل نمطاً فرنسياً.

روايةٌ في بناية باريسية أشخاصها تونسيون في الأغلب

ليس الأمر هكذا مع زهرة الخادمة، فهي تخضع لتعنيف زوجها الذي لا يأبه، في ملبسه ومظهره، للغرار الفرنسي. إننا، مع أنّ ذلك ليس محور الرواية، نجد أنفسنا طوال الوقت في هذه المقابلة بين النمط الفرنسي والتقليد التونسي. نجد هذه المقابلة لدى الأستاذ والخادمة، وكلاهما متفرنس في لغته وسلوكه، لكن الإرث التونسي لا يلبث، في أوقات الحرج، أن يعلن عن نفسه، بل إنّ هذه المواجهة قائمة أيضاً في صميم سلوك الأستاذ، الذي يبدو واعياً لتفرنسه، واعياً أيضاً لما بين الفرنسية والتونسة من فوارق، تلحق بالصغير الدقيق من الأشياء، كما تلحق بالكبير والمهم.

فرنسة زهرة الخادمة أكثر مفارقة، ليس لها ما للأستاذ من مقام يعزِّز هذه الفرنسة، لذا نجد أنها لا تزال تحفظ دينها، فحين تموت مخدومتها تحزن لأنها كافرة غير مسلمة، ومصيرها لذلك النار. زهرة تلك تحدِّث الأستاذ بالتونسية، وهذا أمر يرضاه الأستاذ وربما تستحبه تونسيته المكبوتة في حياته مع بريجيت. إنها خادمة وهو أستاذ جامعي لكنه، يتفاجأ من نفسه حين تحدِّثه هذه لأنه يحب زهرة، بل نحن أيضاً نُفاجأ حين يعلن ذلك دون شرح وافٍ. لقد فوجئ بنفسه يحب زهرة الخادمة، هو الأستاذ الجامعي المدلّل بمقامه.

الصورة
الاشتياق إلى الجارة - القسم الثقافي

فوجئ بنفسه، هذه المفاجأة ليست دون دلالة. إنه يقبل بأن يعلِّم زهرة العربية بعد أن كان يكلّمها بالتونسية، ويعيرها رواية الطيب الصالح "عرس الزين" التي تنجح في أن تتهجّأ سطرين منها. زهرة بالطبع تونسية صرفة، وستعود إلى تونس في نهاية الأمر. لا نعرف إلى أي درجة يمتّ هذا الحب المفاجئ، الذي باغت الأستاذ الجامعي، إلى حنين للأصل التونسي. لا نعلم إلى أي درجة، يرجع هذا الحب فيها إلى تونسية مكبوتة، مكبوتة لدرجة أنها تخفى على صاحبها ولا تتكشف له.

نجد أنفسنا في مقابلة بين النمط الفرنسي والتقليد التونسي

منذ البداية، وحين شعر الأستاذ بحبه هذا، الذي لم يفهمه، ظلّ يفكّر في زوجته الفرنسية، أي حياته الفرنسية وتطبُّعه الفرنسي. لقد شاء لذلك أن يكون هذا الحب كالحنين خافياً مضبوطاً مراقَباً. شاء ألّا يخرّب عليه حياته العائلية، أي بكلمة حياته الفرنسية، التي هي مصدر اعتزازه ومعياره ومقاسه. لكن الأمر لم يبق عند هذا الحد، ما عاد في وسعه أن يوازن بين مثاله الفرنسي ورغباته الكامنة. ما عاد قادراً على أن يُجري هذه الرغبات في النمط والمثال الفرنسيَّين، أن يقبل خادمة تونسية في حياة الأستاذ الفرنسي. لم يعد قادراً على أن يضبط هذه الرغبات، لذا وجدناه، في النهاية يهجم على الخادمة بشهواته، بحيث تضطر هذه التونسية، العائدة بعد قليل إلى تونس، تضطرّ إلى أن تطرده من بيتها.

لا يبدو أن الحبيب السالمي يجنح إلى هذا التفسير، لكن الرواية، دون أن تقصد ذلك، تتّجه غير واعية إليه. بالطبع، يتوقّف الروائي كثيراً عند المقابلة بين النمطين التونسي والفرنسي، زهرة مثل واضح على ذلك، لكن الأستاذ يختزن هذا التعارض، وغالباً ما يتجاهله لأنه، في النهاية، يخشاه. إنه يتخبّط فيه ويدعه يسوقه إلى مطبّات وعثرات، كان آخرها انفجاره، الذي تجلّى في هجوم شهواني على الخادمة التي طردته. هل نستطيع القول إن "الاشتياق إلى الجارة" قد يكون على نحو آخر "اشتياق إلى تونس"؟


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية

المساهمون