لميس سعيدي: 102 غرفةٌ للحزن والفرح

لميس سعيدي: 102 غرفةٌ للحزن والفرح

13 سبتمبر 2015
(محمد سعيدي، الثاني من اليسار)
+ الخط -

من غرفةٍ في مستشفى باريسي، يبدأ كتاب الشاعرة الجزائرية لميس سعيدي "الغرفة 102.. سيرة والدي"، وإليها ينتهي، ليفتح صفحاتٍ من حياة الناقد وأستاذ الأدب الروسي في الجامعة الجزائرية والمناضل في "جبهة التحرير الوطني" محمد سعيدي (1934 - 2014).

للوهلة الأولى، يبدو الكتاب الصادر حديثاً عن "دار العين" المصرية، مرثية لشاعرة تبكي والدها؛ لكن القارئ سيكتشف أن الرثاء كان غائباً عن نصوصه السردية القصيرة التي صيغت بشعرية عالية.

إلى جانب وصف أيامه الأخيرة في المستشفى، ثمّة تفاصيل حميمية لعلاقة أب بابنته وأسرته، وحفرٌ في مسار رجل طبع الحياة الفكرية والثقافية في الجزائر طيلة عقود، وقصص تبرز بعض آرائه ومواقفه في الثقافة والسياسة والحياة.

في 16 أيلول/ سبتمبر الجاري، تكون قد مرّت سنة على رحيل محمد سعيدي. لكن صدور الكتاب، في هذا التوقيت، ربّما، ليس سوى صدفة؛ فقد نشرت الشاعرة نصوصه في صفحتها على "فيسبوك" بعد أيام من رحيله، مستعيدةً لحظاته الأخيرة، وحياته التي امتدّت على مدار ثمانين عاماً.

بسرعة، تتجاوز سعيدي ثيمة "الموت"، لتفتح على ثيمات أخرى تبدو متلاصقة حدّ التماهي: العودة والفرح والحياة والأرض والوطن.

في جنازة والدها، لا تقف طويلاً عند الطقوس الجنائزية ومظاهر الحزن في قريته التي عاد إليها بعد سنوات من الغياب، بل تلتفت إلى أشياء أخرى، إلى فرحة النساء بالجو اللطيف الذي سيُجنّبهن وطأة الحرّ، وهُنّ يقمن بطبخ كمّيات هائلة من الطعام، وبعودة هذا الابن: "كان يشوب حزنَهن فرحٌ خفي آخر: فرحٌ بعودة الشاب الذي ترك القرية في خمسينيات القرن الماضي ودرس في روسيا وعاش معظم حياته في العاصمة وآخِر سنواته في باريس، ليعود ليُدفن في أرضه الأولى. فرحٌ بعودته ولو كان ميتاً. لم يكن تماماً فرحاً بالعودة، بقدر ما كان فرحاً باختيار المكان الذي يعود إليه.. بأن تكون العودة وصيّته الأخيرة".

هناك في القرية، سيكون ثمّة أكثر من سببٍ لفرحٍ يقف في مواجهةٍ مع ألم الغياب، حتّى وإن كان رائحةً منبعثة من تفاصيل صغيرة وحميمة: "أكلتُ طبق الكسكسي بمتعة وشهية مفتوحة... كان والدي يعشق الكسكسي ويحتفي به بطقوس خاصة. كنتُ أتخيلّه ممدّداً في نعشه في الغرفة المجاورة، يبتسم منتشياً برائحة الكسكسي، برائحة الفرح الحميم رغم الموت".

تقف سعيدي عند دلالات العودة بالنسبة إلى الرجل: "حين نزلتُ من السيارة، ضمّتني رائحة الريف التي هجرتها منذ أكثر من 22 عاماً، هجرتها دون أن أنساها، أدركت سريعاً ودون أن أعرف ما الذي ينتظرني في هذه الجنة الصغيرة، سرّ إصراره على أن يُدفن هناك، أقصد هنا في مجّاجة، مكانه الأثير".

لكن بالنسبة إلى الابنة، يختلف الأمر قليلاً، أو ربّما كثيراً: "حين أبديتُ رغبتي في أن أُدفن أنا الأخرى في مجاجّة، قالت لي ابنة عمّي بأن المرأة تنبت أينما زُرعت، أمّا الرجل فيعود دائماً إلى جذوره. فكّرتُ بأن حكمةً كهذه قادرة على أن تُنجب نساءً أكثر تحرّراً من الرجال".

تصف سعيدي أباها بأنه كان وسيماً وأنيقاً، وهو ما "ورّطني منذ صغري بضعف فادح أمام الوسامة والأناقة؛ نقطة الضعف هذه التي جعلتني أقع في حب رجال تافهين".

هنا، تذكر إصراره على أن "علاقة الجزائريين بالحياة والجمال أصيلة، لولا الفكر المتخلّف الذي شوّهها". تضيف: "لم أعرف شخصاً يؤمن عميقاً بالشعب الجزائري كما يفعل والدي. كان هذا الإيمان محلّ خلاف حادّ أحياناً وغير جوهري بيننا. كان يحب الجزائريين كعاشق يعرف عيوب حبيبته ويتحاشى ذكرها، وأحبهم ككل الجزائريين، كزوجة تعرف عيوب زوجها وتواجهه بها في كل شجار حميم".

تسرد الكاتبة جوانب من علاقتها بوالدها؛ تروي أنها، حين بدأت بكتابة الشعر "بشيء من الجدية"، لم تجرؤ على التحدّث معه في الموضوع، وحين قدّمت له مجموعة مختارة من نصوصها، دخل غرفة مكتبه وعاد بعد ساعة يحمل أوراقها وقد أرفقها بورقة تحمل ملاحظاته، كتب في أعلاها: "قصائد جيّدة، امضي إلى الأمام".

تُشير، أيضاً، إلى الفكر التنويري الذي تحلّى به محمد سعيدي وسعى إلى بثّه في أبنائه، وتروي حادثة مشاجرة وقعت بين أحد إخوتها مع أستاذة للغة العربية، لأنها وصفت طه حسين بـالكافر: "كنّا دائماً في صراع حاد بين ما نجده من نعيم العقل في البيت، وجحيم النقل الغبي في الخارج". وفي موضع آخر، تنقل وصف والدها للمتزمتين دينياً: "يخلطون بين الله وضابط الشرطة".

تُبدي سعيدي استياءها من "تلك الجملة السخيفة والتافهة التي عادة ما نُقحمها في خبر الوفاة: بعد صراع طويل مع المرض". تقول: "لم يكن أبداً في صراع مع المرض، وحين ألزمه الفراش رحل سريعاً. كان في صراع مع أشياء أخرى، كالجهل والتخلّف والاستبداد".

نقف في الكتاب أيضاً على مواقف سياسية للكاتب الراحل. تذكر أنه، وبعد إحباط محاولة الانقلاب العسكري التي قادها الطاهر الزبيري ضدّ الرئيس الراحل هواري بومدين في كانون أول/ ديسمبر 1967، وكان حينها مديراً لصحيفة "الشعب"، اجتمع رفقة عدد من الصحافيين مع وزير الإعلام آنذاك، الصدّيق بن يحيى، بطلب من الأخير، بهدف دراسة كيفية تناول الحادثة إعلامياً. طلب منهم الوزير كتابة افتتاحيات حول الموضوع. وبينما توجّهت معظم الكتابات إلى تبجيل الرئيس وتخوين الزبيري؛ كتب سعيدي: "البطولة تُنسب إلى بومدين والخيانة إلى الزبيري لأن الأخير فشل، ولو أنه نجح لتحوّل إلى بطل وبومدين إلى خائن".

تخصّص صاحبة "نسيتُ حقيبتي ككلّ مرّة" مساحةً لعلاقة والدها باللغة العربية، قائلةً إنه كان متمسّكاً بها، رغم إتقانه لغات أخرى، وحرص على أن يتعلّمها أبناؤه ويتحدّثوا بها: "منذ سنوات طويلة، حاولت مرة أن أناديه papa، كما تفعل معظم بنات جيلي. خرجت الكلمة سخيفة وباهتة، فعدت سريعاً إلى حيث تخرج اللغة طبيعية من الروح والجسد. عدتُ بسرعة إلى كلمة بابا".

المساهمون