مساءلة الركبان

مساءلة الركبان

28 ابريل 2020
+ الخط -
ذاع في الآفاق مثلٌ أطلقه النعمان بن ماء السماء، وصار يضرب لكل من يُسمع عن الخبر الجلل، بينما يكون دون ذلك عند المعاينة، إنه قول النعمان "تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه"، قاله لضَمْرَة بن ضَمْرَة، وقيل بل لشِقَّةَ بن ضَمْرَة، وقيل إنما قاله لخيثم بن عمرو النَّهدي الملقّب بالصَّقعب، والمضروب به المثل في قولهم "أقتلُ من صيحة الصّقعب".

وقالوا إن سبب مقالة النعمان أن الناس لم تَرَ منذ زمن المعيدي إلى زمن الجاحظ أقبحَ منه، ولم يُرَ منذ زمن الجاحظ إلى زمن الحريري أقبحُ منه. لم يتصاغر ضمرة لكلمة النعمان، إنما رد عليه بقوله: "أيها الملك! إنَّ الرِّجال لا تُكالُ بالقُفزان، ولا تُوزنُ بالميزان، وليسَتْ بِمُسُوكٍ ليُستقى فيها الماء، وإنما المرءُ بأصغريه؛ قلبِهِ ولسانِه، إن قال قال ببيان، وإن صال صال بجنان"؛ فأُعجِب النعمان بمنطقه.

تدرك العرب أن الأمر ليس قانونًا، فقد تسمع بأحدهم فإذا لقيته رأيت أعظم مما سمعت، ومن هنا قالوا ما يغاير قول النعمان، ويختلف حكم المرء مشاهدةً عنه سماعًا، هذا ما حدا بالمتنبي لأن يقول (خذ ما رأيت ودع شيئًا سمعت به/ في طلعة الشمس ما يغنيك عن زُحل)، ولا ينسحب قول أبي الطيب على كل شيء؛ فهو إن صح في الأمور المادية والدنيوية، فلا يتساوق مع الأمور المعنوية والدينية.

إن السمع يُغري، ولذلك قال بشار بن برد (يا قومي أذني لبعض الحي عاشقة/ والأذنُ تعشقُ قبل العين أحيانا)، ويأتي قولهم في مساءلة الركبان ضمن هذا الجو؛ فإذا وصفوا للرجل هيئة طيبةً عن أحدهم، لكنه لمَّا التقى الموصوفَ؛ لمس فيه جمالًا وجلالًا يفوق الوصف، عضَّد بذلك قول بعضهم (وشوَّقني ذِكرُ الجليسِ إليكم/ فلمَّا التقينا كنتُمُ فوق وصفِهِ)، وهذه محادثة الركبان بالخير بعيدًا عن الغيبة والنميمة وسوء السيرة وإحصاء الصغيرة.


يقول الشاعر (كانت مساءلة الركبان تخبرنا/ عن جعفر بن فلاحٍ أطيب الخبر/ حتى التقينا فلا والله ما سمعت/ أذني بأحسن مما قد رأى بصري)، وهو قول يعظِّم قيمة المرئي على عكس ما فعله النعمان.

تباين عَجُزُ البيت -في كتب الأدب- والشخص الموصوف بهذه المكرمة؛ فهذا أبو البركات بن الأنباري ينقل قصة لقاء أبي السعادات بن الشجري بأبي القاسم الزمخشري؛ ففي "نزهة الألبا" يقول ابن الأنباري: "وقدم الزمخشري بغداد؛ فلقيه شيخنا الشريف ابن الشجري مهنئًا له بقدومه، فلما جالسه أنشده الشريف (كانت مساءلة الركبان تخبرني/ عن أحمد بن داؤد أطيب الخبر/ حتى التقينا فلا والله ما سمعت/ أذني بأحسن مما قد رأى بصري).

ورد اسم الموصوف في معجم الأدباء مثله في نزهة الألبا (أحمد بن داؤد)، وأورده شمس الدين الذهبي في "سير أعلام النبلاء" أحمد بن علي، وفي "المثل السائر"، يُقصي ضياء الدين بن الأثير كلًا من جعفر بن فلاح وأحمد بن داود، ويجعل الممدوح (أحمد بن سعيد)، ومثله فعل ابن تغري بردي في "المنهل الصافي"، وابن معصوم في "أنوار الربيع".

لكن ابن خلِّكان أورد البيتين في "وفيات الأعيان" ضمن ترجمته لجعفر بن فلاح الكتامي، وهو من قادة الفاطميين، ونسب ياقوت البيتين إلى ابن هانئ الأندلسي، وعلَّق بقوله: "والناس يروون هذين البيتين لأبي تمام في القاضي أحمد بن أبي داود، وهو غلط؛ لأن البيتين ليسا لأبي تمام، وهم يروونهما عن أحمد بن داود، وهو ليس بابن داود، بل ابن أبي داود، ولو كان كذا لما استقام الوزن".

أما ابن العماد الحنبلي فقد أورد في الجزء العاشر من "شذرات الذهب" صيغة جديدة لهذا المعنى، ولم يذكر بيتين بل ثلاثة أبيات هي (كانت مساءلة الركبان تخبرنا/ عن علمكم ثم عنكم أحسن الخبر/ ثم التقينا وشاهدت العجائب من/ غزير علمٍ حمته دقة النظر/ فقلت حينئذ والله ما سمعت/ أذناي أحسن مما قد رأى بصري).

والبيتان -محل الحديث- مثبتان في ديوان ابن هانئ بصيغة تختلف قليلًا عن الذائعة، إذ يقول (ما زلت أسمع والركبان تخبرني/ عن جعفر بن فلاحٍ أطيب الخبر/ حتى رأيتك لا والله ما سمعت/ أذني ببعض الذي عاينت بالنظر).

وأخذ أبو الطيب البيتين واستعمل فحواهما في مدح علي بن أحمد بن عامر الأنطاكي فقال (وأستكبِر الأخبار قبل لقائه/ فلما التقينا صغَّر الخَبَرَ الخُبْرُ)، وهو يؤدي المعنى ذاته، وجاءت براعة المتنبي في اختزال البيتين في بيتٍ واحد؛ فزاده حلاوةً وخلع عليه من سحره ورونقه.

ورُوي أن ابن المعلم اجتاز يومًا ببغداد بمكان فيه زحامٌ كثير؛ فسأل عن سببه، فقيل إن أبا الفرج بن الجوزي يعظ النَّاس؛ فزَاحَمَ وتقدَّم حتى سمعه، ثم أنشد ابن المعلم (يزدادُ في مسمعي تكرارُ ذكركم/ طِيبًا ويَحْسُنُ في عيني مُكرَّرُه)، وقريب من ذلك قول ابن الموصلي (ما زلتُ أسمعُ عن إحسانِكم خبرًا/ الفضلُ يُسنِدُهُ عنكم ويرفعُه/ حتى التقينا فشاهدتُ الذي سمعت/ أذني وأضعاف ما قد كنتُ أسمعه).

نعاين ملمحًا جديدًا في مضمار المقارنة بين السماع والمعاينة، إذ نجد في "نهج البلاغة" للشريف الرضي قولًا ماتعًا: "وكل شيءٍ من الدنيا سماعُه أعظم من عيانِه، وكل شيء من الآخرة عيانُه أعظم من سماعه؛ فليكْفِكُم من العِيانِ السَّماع، ومن الغيبِ الخبر"، وهذا يقتضي أن نتعامل مع الأمور بميزان مختلف، وألا نُخدع عن أنفسنا، ونعد للأمر ما يوائمه لنسلم من تبعاته.

وكما أن مساءلة الركبان توضح الشيء الكثير عن معادن الرجال ومكانتهم، فإنها قد تخدع أحيانًا، ويدخل في ذلك هوى النفس وحزازاتها، ومن ثمَّ فالاعتدال أولى والتوسط أليق، "ولا تميلوا كلَّ الميل"، وفي حديث الركب ما يضفي إلى خبرات المرء ويصقل تجاربه؛ فليُحسِن السمع لما يدور حوله، وأن يُمحِّص ما يسمع، ويوازن بين الأقوال والأفعال.