خطيب الورقة

خطيب الورقة

02 ابريل 2020
+ الخط -
يومًا ما، اقتادتني الصدفة البحتة لصلاة الجمعة في بعض المساجد. لم أرَ الخطيب لكثرة المصلين، ولم أسمع ثلثي الخطبة لوصولي متأخرًا. أغرتني استشهاداته الفقهية والشعرية، وتدفق الدعاء على لسانه، وقررت الحضور له لاحقًا، وإن استرابني أمرٌ لم أتأكد منه.
في جمعة لاحقة، جلست في مقدمة الصفوف، ورأيت الخطيب عيانًا بيانًا، فلما تكلم تذكرت مقالة النعمان بن المنذر "تسمعُ بالمعيدي خيرٌ من أن تراه".

افتتح خطبته بمقدمة يحفظها عن ظهر قلب، فلما قال "أما بعد" قطع علاقته بالذاكرة، وأخرج مجموعةً من الأوراق، لا بطاقات تذكيرية يضع فيها رؤوس أقلام، قرأ منها الخطبة حتى وصل إلى الدعاء، حينها أعاد الأوراق إلى جيبه، لقد حفظ الدعاء غيبًا، فلم يحتج إلى كتابته! بين أما بعد والدعاء، دخلت سراديب كثيرة وأنا أحاول البقاء على قيد التركيز؛ فعجبتُ كيف لرجلٍ كتب خطبة بخط يده أن يخطئ كل تلك الأخطاء؟ ولماذا ينكفئ على لسانه ويتلعثم بهذا الشكل؟ وكيف لم يرفع عينه من الورقة إلا لُماما؟

صدر لنا شعورًا بأنه يحارب، وزاد الأمر إحراجًا أنه لم يُرقِّم الصفحات، فأدخل فقرات لا علاقة لها ببعضها، ولمَّا تدارك الأمر أعاد الفقرات من أولها، وقرأ الأبيات الشعرية فكسر الوزن وأضاع المعنى بإخلال الحركات الإعرابية. ببساطة لم يكن هذا الخطيب "في الفورمة"، وهمس أحدهم: ماذا لو أطاح النسيم العليل بالورق من يد الخطيب؟ هل يقطع الخطبة وينتظر أن تُجمع له؟ وماذا لو نسي الورق أو ضاع منه في الطريق؟ وبما أنه كتب الخطبة وأخطأ في قراءتها، أليس من الأفضل أن يطبع الخطبة ويوزعها علينا؟ ولا سيَّما أننا نجيد القراءة!


لم يسكت صاحبنا، وأضاف: وإن كان بسلامته - يقصد شخص الخطيب - من أنصار حماية البيئة ولا يحب الورق الكثير، فليرسلها لنا على واتساب أو أي وسيلة تواصل، ويبقى أراح واستراح! فجأة نظر إليَّ بعينين زرقاوين وسألني: مش صح كلامي؟ لم أعتد أن أجاري أحدًا لا أعرفه، ربما يكون فخ من صنع الخطيب، فأشرت إليه بسبابتي أن اصمت.

في الصفحة 53 من كتابه "الشعور بالإلحاح"، يؤكد جون بي كوتر مسألة انعزال الخطيب عن جمهوره، يقول كوتر "عندما نقف وراء المنصة الخشبية الكبيرة والقديمة، يمكن لذلك أن يعطي شعورًا كما لو كان شخصٌ يضع درعًا بيننا وبين الجمهور، والدروع تميل إلى دفع الناس بعيدًا، وتعزل أيّ علاقة شخصية، وتجعل الجمهور حذرًا وأقل تقبلًا. معظم المنصات التقليدية أيضًا تُنشئ طابعًا رسميًا، وهو الأمر الذي يتماشى بشكل متزايد مع الثقافة المعاصرة، وينتج عنه مزيد من الانفصال".

يتحدث كوتر عن التأثير السلبي للتترّس خلف المنصة، بالرغم من أنها لا تعيق التواصل البصري بين الخطيب وجمهوره، لكنها تعيق قدرًا من الحميمية المرغوبة، وتحول دون قراءة لغة جسد الخطيب أو المتحدث؛ فما ظنُّك بمن يحدث أناسًا وقد عصب عينيه عنهم إما بورقة يقرأ منها، أو بتثبيت عينيه على نقطة ما لا يتحول عنها!

تأخذنا رواية "فهرنهايت 451" إلى عوالم مشابهة؛ فالحكومة ارتأت في القراءة خطرا مدمرا، وحكمت بحرق الكتب والمكتبات، وسجن أصحابها مع وصمهم بعار "أعداء الشعب"، قياسًا على ما فعلته الشيوعية بمعارضيها. زيّنت حرق الكتب بدعوى أن الهدف حماية المواطنين من الاكتئاب، وفرضت نوعًا من الوصاية الفكرية مفاده "نحن هنا لحمايتكم من الكتب والأفكار". لم تنطلِ أفكار الحكومة على المثقفين والقراء النهمين، بل وأثارت الغيظ في قلوب أنصاف القراء، فتمسكوا بالقراءة وواظبوا عليها.

شددت الحكومة الخناق على الكتب، وعُومِلت معاملة الممنوعات وجداول المخدرات، وأمام هذا التعنت اضطر الناس إلى تغيير خطتهم في الحفاظ على الفكر والثقافة من الضياع؛ فحفظوا الكتب في صدورهم ورددوها في جلساتهم العامة والخاصة، آملين أن تنتهي الغمة ليعيدوا كتابتها مرة أخرى.

والآن، أقرأ هذا الخبر - المنشور ببعض الصحف، وأنقله إليك دون تحريره لغويًا - وعلّق عليه أو لنناقشه معًا:
(قام إمام وخطيب جامع مركز العسران بمحافظة سراة عبيدة باستخدام التقنية الحديثة في تقديم خطبتي صلاة الجمعة من خلال استخدامه لجهازه المحمول، حيث قدم الخطبة من خلال فتح جهازه أمام المصلين وقراءة الخطبة المحملة عليه، حيث ابتعد عن استخدام الأوراق أو الطريقة الارتجالية التي يتبعها أغلب الخطباء، وقد لفت أسلوبه أنظار المصلين بالجامع، حيث إنه أسلوب جديد لم يتم استخدامه من قبل في إلقاء خطب الجمعة. التجربة شدت انتباه الحاضرين بعيدا عن الطرق التقليدية القديمة).

وبعيدًا عن أن الضاد ليس فيها أفعال مساعدة (تم، قام)، وبصرف النظر عن ركاكة الصياغة والإسراف في استعمال (حيث)، مع الجمل الطويلة والهشة، لكن ما نركز عليه الآن: مضمون الخبر! ما الفرق بين القراءة من ورقة أو القراءة من الجوال/ الموبايل؟ أليس في هذا وذاك قطع للتواصل البصري؟! أليس في ذلك ما يحول دون وصول رسالتك لجمهورك؟!

إن لم يستمع الناس لما تقوله، فلن يتلقوا رسالتك بأي حال، لو أنفقت في ذلك ساعة أو ساعات بين أيديهم، فلا أثر لذلك على الإطلاق. لا تنشغل عن التواصل البصري، يتطلب ذلك أن تعد المادة جيدًا، وأن تضع جمهورك في حسبانك منذ اللحظة الأولى، وعندها سيكون تفاعل الجمهور أكبر والنتيجة أفضل، وإلا فأنت تضيع وقتك سدى.

خطيب الورقة لا يعيش طويلًا، هذه قناعة شخصية، قناعة تشكّلت بعد سنوات من المعايشة والتدريب، وأكدتها تجارب لا حصر لها من مختلف الثقافات؛ فإن أردت لجمهورك أن ينام بين يديك نومًا متقطعًا ومؤسفًا، اكتب خطابًا ما واقرأه عليهم وأنت دافن وجهك بين أوراقك، ولا أظنك تخطط لذلك على الإطلاق. تواصل مع جمهورك بصريًا، ولا تتعامل مع الحشود بجفاف، لتحقق قيمتي الإقناع والإمتاع.

دلالات