هل تتحجّب الغيرة؟

هل تتحجّب الغيرة؟

15 ابريل 2020
+ الخط -
سؤال لطالما يُطرح، ومفاده: هل تتحجب الغيرة، التي نعرف عنها بعض الشيء بأقنعة كثيرة؟ وما هذه الأقنعة؟ وكيف يمكن تفسيرها والإحاطة بها؟ ما يعني أنّه يلتبس أمرها وتنطمس معالمها، وهذه القناعة لا تغيّر من طبيعة الغيرة القاتلة شيئاً، فهي سمّ في جوهرها، وتقضي بلا مبرر على الثقة، فضلاً عن أنها تفضي إلى غرس بذور الكراهية والبغضاء بين أفراد الأسرة الواحدة؛ في الوقت الذي لا يرى فيها كثيرون أنها تفضي إلى كل هذه التساؤلات البغيضة المبطنة التي تحمل في رقعتها معاناة حقيقية لمن أطنب بعيداً عن الأخذ بها!

وتفوق الغيرة كل ما سواها من أبواب العذاب العاطفي، التي ما زال الواحد منا ينزلها بالآخر، فهي تتميز عن غيرها من حيث تواريها وتغلغلها في طيات اللاوعي الخفية، وتضاهي ما عداها قدرةً، لا على تدمير الغيور نفسه فحسب، ولكن على تدمير من يكون موضع غيرته أيضاً. فإن كانت الغيرة في ظاهرها نزعة ترمي إلى الاحتفاظ بحب الآخرين، فإنّها في جوهرها أداة تنحرف بذلك الحبّ عادةً وتحوّله عن مجراه إن لم تَخْنُقه خَنقاً وتأتِ عليه.

والباعث على شعور المرء بالغيرة ليس الشخص الآخر، وهذا ما يحمله على الاكتواء بلهيبها تبعاً لمسلكه وتصرفاته. فقد أثبت طبّ النفس الحديث أنَّ الغيرة تكاد تكون عديمة الصلة بالغير. فهي تُعزى إلى فشل المرء وعجزه عن التكيّف في حقائق الواقع، إنها تنبت في تربة ذلك الفشل وتعكس معالمه وخصائصه.

ليس منا من هو كامل التكيّف، لذلك كنا جميعاً عرضةً للشعور بالغيرة بقدر ما، وشعورنا بها من حين إلى آخر عادي وطبيعي جداً كشعورنا بالغضب والارتياح والحب والبغضاء، وما إلى ذلك من مشاعر مألوفة، ومن الناس من لا تظهر عليهم مشاعر الغيرة، إلاّ أن الكبت الخانق هو الذي يَحجُبها ويَحول دون ظهورها.


الغيرة غالباً ما تلتبس علينا وتدفع بنا إلى الظن بأنها شيء آخر غيرها، ويزيد هذا الالتباس بقدر ما تكون بالغة الحدّة عميقة الجذور، لذلك كانت المهمّة الشاقة في معالجة الغيرة هي في الخروج بها من طيّات الباطن اللاوعي في نفس صاحبها، إلى منافذ الوعي وإخضاعها بالتالي لنور العقل والتفكير وفطرة المنطق السليم. ولعل ما يزيد هذه المهمّة صعوبة ومشقة هو ما تنطوي عليه الغيرة من شعور صاحبها بعدم أهليته للظفر بما يحرص عليه من حب الغير وإعجابه.

وبدلاً من الاعتراف بالغيرة بصراحة وبساطة، تذهب الزوجة الغيور، على سبيل المثال، إلى تقريع زوجها وتصيّد أخطائه، كما قد يذهب الزوج الغيور أيضاً إلى توبيخ زوجته لإهمالها شؤون البيت، أو سوء تصرفها في تربية الأطفال، وهذا التوبيخ وذلك التقريع ما هما إلاّ بمثابة التنفيس عن مشاعر الغيرة.

وقد يَعمد المرء أحياناً إلى الإقرار بغيرة عابرة يشعر بها، وذلك بغية إخفاء ما يشعر به من اهانة وأذى. يتضح ذلك في مثال الزوج الذي ادعى الغيرة من رئيس الدائرة التي تعمل فيها زوجته، بل تعمّد الاصطدام به والعراك معه في إحدى الحفلات العامّة، وبلغت ما تخفيه غيرته من مشاعر أخرى إلى مصارحة صديق له برغبته في خروج زوجته من وظيفتها، والحقيقة هي أن الزوج كان يشعر بشيء من النقص بالنسبة لزوجته، والغيرة منها هي، لأن مرتّب زوجته الشهري بلغ ضعف المرتب الذي كان يتقاضاه، وفي ذلك ما فيه من طعن بكبريائه كرجل. إلاّ أنّه لا يجرؤ على مجابهة شعوره بالغيرة، فضلاً عن الاعتراف بها علانية كخطوة أولى في سبيل تخطّيها والتخلّص منها، وهو غير قادر أيضاً على إخمادها أو كبتها، لذلك كانت الغيرة ذريعته ومتنفسه.

وتُعزى الغيرة في الحياة الزوجية في الغالب إلى المنافسة التي تنشأ بين الزوج وزوجته فيما يتصل بالأطفال. فقد يشعر الزوج بالنفور من أطفاله الذين حرموه من بعض ما كان ينعمُ به من عواطف زوجته، وقد لا يجد متنفّساً لنفوره هذا إلاّ بتأنيب الأطفال الأبرياء وضربهم، شأنه في ذلك شأن الزوجة التي قد تعمد إلى تصرف مماثل في ظروف ولأسباب مماثلة.

وقد تؤدي بالحماة غيرتها من زوجة ابنها إلى ادعاء مرض عضال في القلب أو في غيره، استدراراً للعطف، كما قد تدفعها الغيرة أيضاً إلى لوم ابنها وتوبيخه بقصد اجتذاب المزيد من اهتمامه وعنايته.

فالغيرة مظهر من مظاهر الحب القوي الجامح، ولعلَّ الأصحّ من ذلك أن يُقال بأن الحُب لا يستطيع الصمود في وجه الغيرة والخلاص من سمومها ما لم يكن قوياً راسخاً.

فالغيرة تنبع جزئياً من الشعور بالاحتقار، وتعبّر -بالتالي- عن شعور الرجل الفطري بأن المرأة مخلوق ضعيف وغير جدير بالثقة، كما تعبّر عن شعور المرأة الراسخ بأن الرجل مفطور على الخيانة والقسوة، على أن مشاعر الغيرة العابرة شائعة في الكثيرين من الناس. قد تأتي نتيجة لمرض يلم بزيد، أو إرهاق أو حادث مفجع يتعرض له عمرو.

إنَّ الغيرة بشتى أنواعها لا تعدو كونها شعوراً مردّه إلى العاطفة لا إلى العقل.. وإنَّ سلاحها الوحيد هو الشكّ في الإخلاص والريبة في الوفاء، وقد لا تكون هذه الشكوك قائمة على أساس من الواقع، حينئذ تكون الغيرة وهمية، تهزّ أركان الحياة الزوجية بلا مبرّر أبداً. وقد تكون تلك الشكوك وجيهة ولها ما يبرّرها في تصرفات الآخر، وحينئذ لا تعمل الغيرة إلاّ على تعقيد المشاكل وتفاقمها إذ لا سبيل مطلقاً إلى حل تلك المشاكل بالغيرة.
6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.