مهارة إعداد الخطبة

مهارة إعداد الخطبة

01 ابريل 2020
+ الخط -
كان خفيف الروح، محبًّا للمجاملة، مشجِّعًا للآخرين ما وسعته الظروف، ما رفع من هرمون العشم عند بعضهم، ومال عليه بلهجة مترددة: يا فلان! أود أن تحضر حديثًا سألقيه أمام جمهور، وأن تقيِّم تجربتي، وأرجو ألا تجاملني.

وذهب صاحبنا وفق الموعد المضروب، وغلبته عيناه فغط في النوم غطيطًا، حتى أنه أصدر من أنفه صوتًا لم تحجبه إلا همهمات آخرين. انفض السَّامر، لكن الخطيب كان مُغضبًا وقال متذمرًا: يا أخي! دعوتك لترى قدراتي الخطابية ولتبدي رأيك، فنمت في القاعة! نظر إليه طويلًا ثم قال: يا عزيزي! نومي هو رأيي.

قبل أن تلقي كلمتك، تأكد من أنك لا تتعامل مع جمادات! قد تظنني فظًا في هذا التصوير، لكنها حقيقة كثيرًا ما رأيتها، إذ يقف المرء أمام جمعٍ من الناس، ثم ينزل عن المنصة ولم يحرك فيهم شعورًا، وإن شئت الدقة، فإنه سيحرك فيهم شعور الضجر والملل والنظر في الساعة. سيقول بعضهم: متى ينتهي هذا؟ وآخر سيشيح بوجهه عنه ويدخل في نوبة ذكريات، وثالث يحمل هاتفه كأنما جاءه اتصال مهم، لا لشيء إلا للهروب.

النصر حليف الإعداد، وتحتاج إلى أدوات قوية تجذب جمهورك، وتقول له بلسان الحال قبل المقال "أنا أحترمك، وأقدّر وقتك الذي منحته لتحضر وتسمعني، إنني سأقدم لك هديةً تليق بك؛ إنها مادة شيّقة وقيّمة، تجمع بين الإقناع والإمتاع". لم يحضر الجمهور ليضيق صدره، ولا ليكابد مرارة سوء تحضيرك وتشوّفِك للظهور وتشوقك للأضواء؛ فإن لم تملك رصيدًا رصينًا من الإعداد وتحليل جمهورك؛ فالزم غرزك.


ولتتفادى مثل هذه المواقف، يتعين عليك التخطيط جيدًا لحديثك؛ استعمل تقنيات جديدة. إليك مثلًا طريقة TOWER، وموجزها في التفكير Thinking، فإذا أخذت وقتًا في "طبخ الفكرة" على نارٍ هادئة، تجنبت التكرار واجترار ما سُبقت إليه. التفكير يقودك إلى مستويات أعلى من الإبداع؛ فلا تتعجّل الأمر وفكّر مليًّا، وثق أن الأحمق يندفع فينكب على وجهه، في حين يجرؤ المبدع على التروي، فيسبك الفكرة سبكًا ويُنضِجها في عقله نُضجًا، ليرتفع ذكره ويلتمع قدره.

الخطوة الثانية تتمثل في تنظيم الأفكار Organizing، فإن جمع الأفكار دون استعمال الخيط الناظم كارثة؛ فيعرض المرء أطرافًا غير متسقة للموضوع، وينسى أفكارًا مؤثرة، ثم يعيد ذكرها في وقتٍ غير مناسب، ويشتت الناس في متاهات عبثيته، وقد يتوهم نفسه في محاضرة فيُمسك بقلم، ويبدأ التخطيط على غير هدى، ثم يفجعهم بقوله "نسيت.. انتظروا.. أعطوني بعض الوقت"، عندها سيخيب أمل الجمهور، ولن يسمعوا لك بعدها مهما حاولت، ما لم تحدث معجزة تسعفك..

الخطوة الثالثة توثِّق سيطرتك على الموضوع، فبعدما فكرت ورتبت أفكارك، عليك بالكتابة Writing بإتقان وتسلسل منطقي. ضع كل ما عندك على الورق، حبذا لو استعملت ورقة بحجم A4، وصُغ موضوعك على طريقة الخرائط الذهنية. ضع العنوان في وسط الورقة، ومن حوله الأفكار الرئيسة، ثم لا بأس أن تتفرع كل فكرة رئيسة إلى فكرتين فرعيتين. ويجدر بك ألا تزيد الأفكار الرئيسة عن 5 أفكار، ويحبذ أن تكون في نطاق 3 – 5 أفكار، ولا تُرهق جمهورك.

ستبدو لك الخريطة الذهنية سلسلة، ربما يغريك ذلك بإضافة أفكار رئيسة أكثر، لكن تذكر أن جمهورك لا يملك الخريطة نفسها، وأن مهمتك إيصال الفكرة دون استنزاف ذاكرة الجمهور؛ فاعمد إلى التخفيف من عدد الأفكار، وركز على أهم المهم وخلاصة المسألة.

في الخطوة الرابعة يأتي دور التحرير Editing، وليس المراد به التصحيح اللغوي فحسب، قد تُهمل هذه الخطوة بدعوى أنك لن تعرض الخطاب مكتوبًا على الجمهور، نعلم أنك ستلقيه شفاهة، لكن التحرير أوسع من مجرد ضبط الأخطاء. قد تخلط في حديثك بين كلمات (ساهم/ أسهم)، (استغلال/ استثمار)، (مختص/ أخصائي)، وقائمة طويلة من الفروقات اللغوية، وعندها ينقذك التحرير من وطأة الحرج. ربما يكون قاموسك اللغوي ضامرًا أو ضحلًا، عندها سيضيف المحرّر إليك كلمات تثري خطابك وتنفخ فيه الروح.

لعلك سمعت برجلٍ اكتسب صفةً محمودة نتيجة قاموسه اللغوي الهزيل، ويعد من المتحدثين المؤثرين، وله أسلوب جيد في الخطابة والإقناع، لم يؤخذ عليه إلا أن قاموسه اللغوي بالي الأسمال، إنه تشارلي جونز. يقول جونز: "أنا رجل محدود المفردات، وبعد أعوام من توقيع خطاباتي بكلمة (الرائع)، ومناداتي أصدقائي بالكلمة ذاتها، ووصفي للحياة بالكلمة نفسها، ارتبطت بي تلك الكلمة".

لا أنصحك بأن تتقوقع وتُقزِّم قاموس مفرداتك، والسُّبُل لإثرائه لا حد لها ولا منتهى؛ فاعمد إلى امتلاك رصيد لغوي كبير، وإن اكتنز غيرك الذهب والفضة، فاكتنز أنت المفردات المعبرة عما يجول في صدرك، إذ إن من يتعرض للحديث أمام جمهورٍ بضاعته الكلام، به يبيعهم فكرته ويكسب ثقتهم، أو يحكم على نفسه بالفشل، وأنت سيد قرارك.

الخطوة الخامسة لا تقل عن أخواتها أهمية، إنها المراجعة Revising، وفيها تتخفف من المصطلحات العلمية إن لم تكن ضرورية؛ فإن كانت تخدم الحديث وجب عليك تبسيط معناها، وأن تقلل من جفاف المادة العلمية بفكاهة أو طرفة، وهنا قيدٌ آخر ألا يكون الحديث موجهٌ لطبقة أكاديمية، أو مناقشة رسالة؛ فإن الفكاهة هنا قد تجرّ عليك ما لا تُحمد عقباه، ويفصل في ذلك تحليلك للجمهور، ومستوى تقبّله للأمر، فضلًا عن صفته في المكان أو دوره؛ فإن شعبة - وهو علمٌ من أعلام المحدثين النبلاء - كان يحدِّث، فإذا تلمَّح أبا زيد النحوي في أخريات المجلس، رفع صوته: يا أبا زيد! (استعجمت دارُ نُعمٍ ما تكلِّمنا/ والدَّارُ لو كلمتنا ذاتُ أخبارِ).

تحلَّل من جفاف الأرقام، استعمل التقريب، استخدم حيلًا ذكيةً لإيصال الرقم إلى الناس، تفاعل، وظِّف لغة جسدك دون مبالغة؛ فإنك لست مارسيل مارسو، واحذر أن تقرأ من ورقةٍ وتقطع حبل التواصل البصري مع جمهورك؛ فإن خطيب الورقة لا يعيش طويلًا.