قراءة في "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" (2/2)

قراءة في "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" (2/2)

19 يناير 2020
+ الخط -
يواصل ابن الأثير العزف على وتر السبق والتقدم، على طريقة بعض الفقهاء ومنهم الإمام السيوطي في قوله "ولم أرَ مثل نفسي"؛ فيضيف ابن الأثير في مقدمة المثل السائر: "وهداني الله لابتداع أشياء لم تكن من قبلي مبتدعة، ومنحني درجة الاجتهاد التي لا تكون أقوالها تابعة وإنما هي متَّبَعة، وكل ذلك يظهر عند الوقوف على كتابي هذا وعلى غيره من الكتب". وبعد سطرين أو ثلاثة يدوزن مرة أخرى على المعنى ذاته بقوله "وإذا تركت الهوى قلت إن هذا الكتاب بديع في إغرابه وليس له صاحب في الكتب فيقال إنه من أخدانه أو من أترابه مفرد بين أصحابه".

وأثناء حديثه عن أركان الكتابة -في الفصل التاسع- يقول ابن الأثير "اعلم أن للكتابة شرائط وأركانا، أما شرائطها فكثيرة... أن يكون الدعاء المودع في صدر الكتاب مشتقًا من المعنى الذي بُني عليه الكتاب، وقد نبهنا على طرف من ذلك في باب يخصه أيضًا؛ فليُطلب من هناك، وهو مما يدل على حذاقة الكاتب وفطانته"، ثم يدندن على وتر المباهاة بنفسه فيقول "وكثيرًا ما تجده في مكاتباتي التي أنشأتها؛ فإني قصدته فيها، وتوخيته بخلاف غيري من الكتَّاب؛ لأنه يوجد في كتابة غيري قليلًا، وتجده في كتاباتي كثيرًا".

وفي الفصل الثاني من المقدمة، يرى خلالها أن صناعة تأليف الكلام من المنظوم والمنثور تستلزم آلات كثيرة، يقول في هذه المسألة "... وقد قيل ينبغي للكاتب أن يتعلق بكل علم حتى قيل كل ذي علم يسوغ له أن ينسب نفسه إليه؛ فيقال فلانٌ النحوي، وفلانٌ الفقيه، وفلانٌ المتكلم، ولا يسوغ له أن ينسب نفسه إلى الكتابة؛ فيقال فلانٌ الكاتب"، ويبرر ابن الأثير حيثيات هذا الحكم بقوله "وذلك لما يفتقر إليه من الخواص في كل فن، وملاك هذا كله الطبع؛ فإنه إذا لم يكن ثمة طبع فإنه لا تُغني تلك الآلات شيئًا، وقيل شيئان لا نهاية لهما؛ البيان والجمال".


ويضع ابن الأثير ثمانية شروط لمن يود أن يمتشق القلم ويكتب للناس، ورتبها ترتيبًا منطقيًا وفق متطلبات الكتابة؛ فأولها معرفة علم العربية من النحو والصرف، وثانيها معرفة ما يحتاج إليه من اللغة وهو المتداول المألوف في فصيح الكلام غير الوحشي الغريب ولا المستكره، وثالثها معرفة أمثال العرب وأيامهم ومعرفة الوقائع التي جاءت في حوادث خاصة بأقوام؛ فإن ذلك جرى مجرى الأمثال أيضًا، ورابعها الاطلاع على مؤلفات من تقدمه من أرباب هذه الصناعة المنظومة منه والمنثورة وحفظ الكثير منه، وخامسها معرفة الأحكام السلطانية في الإمامة والإمارة والقضاء والحُسبة وغير ذلك، وسادسها حفظ القرآن الكريم والتدرب باستعماله وإدراجه في مطاوي كلامه، وسابعها حفظ ما يحتاج إليه من الأخبار الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والسلوك بها مسلك القرآن في الاستعمال، وثامنها وهو مختصٌ بالناظم دون الناثر، وذلك علم العروض والقوافي الذي يقام به ميزان الشعر.

شملت المقالة الأولى الصناعة اللفظية بما فيها من ألفاظٍ مفردة ومركبة وتجنيس وترصيع ولزوم ما لا يلزم ثم الموازنة واختلاف صيغ الألفاظ واتفاقها والمعاظلة اللفظية والمنافرة بين الألفاظ في السبك. وضمنها، يقول ضياء الدين مفندًا آراء من سبقوه: "... وقد بلغني عن الأصمعي وأبي عبيدة وغيرهما أنهم قالوا هو -أيّ بشار بن برد- أشعر الشعراء المحدثين قاطبة، وهم عندي معذورون؛ لأنهم ما وقفوا على معاني أبي تمام وأبي الطيب ولا على ديباجة البحتري"، ثم يغمزهم -من طرفٍ خفي مدعيًّا أنهم ليسوا أهلًا للحكم على الشعر- مُتمِّمًا فكرته: "وهذا الموضع لا يُستفتى فيه علماء العربية، وإنما يُستفتى فيه كاتب بليغ أو شاعرٌ مُفلِق؛ فإن أهل كل علمٍ أعلم به، على أن علم البيان والفصاحة والبلاغة محبوب إلى الناس قاطبة، وما من أحدٍ إلا يحب أن يتكلم فيه، حتى إني رأيت أجلاف العامة وأغتام الأجناس (الأعاجم) كلهم يخوضون في فن الكتابة والشعر، ويأتون بكل مضحكة".

ويتناول بلاغة اللفظة المفردة ويحللها ويوازن بينها وبين غيرها، وينقم على بعضهم في استعمال لفظة ما في غير محلها، ويذكر في ذلك ما يبرهن على رأيه ويدعم قوله، ومن ذلك ذكره: "بلغني عن أبي العلاء بن سليمان المعري أنه كان يتعصب لأبي الطيب، حتى أنه كان يسميه الشاعر، ويسمي غيره من الشعراء باسمه، وكان يقول: ليس في شعره لفظة يمكن أن يقوم مقامها ما هو في معناها فيجيء حسنًا مثلها، فيا ليت شعري أما وقف على هذا البيت: (فلا يبرم الأمر الذي هو حالل/ ولا يحلل الأمر الذي هو يبرم)؛ فلفظة حالل نافرة عن موضعها، وكانت له مندوحة عنها؛ لأنه لو استعمل لفظة (ناقض) لجاءت اللفظة قارةً في مكانها، لكنَّ الهوى -كما يقال- أعمى، وكان أبو العلاء أعمى العين خلقة وأعماها عصبية؛ فاجتمع له العمى من جهتين".

تطرّق ابن الأثير في المقالة الثانية إلى الصناعة المعنوية؛ فتوسع في الاستعارة والتشبيه والتجريد والالتفات والحذف وتوكيد الضميرين والاستدراج وغيرها من الألوان المعنوية، ثم ختمها بمبحثه الماتع المبهج في السرقات الشعرية، وهو مبحثٌ تفرَّد فيه وأحسن سبكه وصقله، وسبق الناقدة الفرنسية بلغارية الأصل، جوليا كريستيفا، في حديثها عن التناص والسرقة الأدبية، وبحثه في السرقة بديع يستحق البحث، وقد قسَّم السرقة إلى ثلاثة أنواع؛ النسخ والسلخ والمسخ، وهو تقسيم لم يُسبق إليه. يقول ابن الأثير "أما النسخ فهو أخذ اللفظ والمعنى برمته من غير زيادة عليه، مأخوذًا من نسخ الكتاب، أما السلخ فهو أخذ بعض المعنى مأخوذًا ذلك من سلخ الجلد الذي هو بعض الجسم المسلوخ، وأما المسخ فهو إحالة المعنى إلى ما دونه مأخوذًا من ذلك من مسخ الآدميين قردة".

عاش ضياء الدين بن الأثير 80 عامًا في ظل الدولة الأيوبية، وشهد الانحدار الأدبي نحو الصنعة والتعمل، وحاول محاربة تدني الذائقة الأدبية لدى جمهور الكتَّاب وأرباب القلم؛ فقدم للمكتبة العربية كتابًا بديعًا في شكله وموضوعه، وهو أول من أطلق لفظ "علم البيان"، وتجد في الكتاب ما يدلك على حضور ذهنه وقوة شخصيته، إذ يناقش أراء السابقين ويدلل على صحة ما يسوقه، وهذا ينفي عنه الأخذ بطريقة "وقع الحافر على الحافر"، بل جدَّد وصحح مفاهيم خاطئة، ناهيك بأمثلته الخاصة في مواضع مختلفة من الكتاب.

من ذلك قوله في المفاضلة بين الشعراء: "والمذهب عندي في تفضيل الشعراء أن الفرزدق وجريرًا والأخطل أشعر الشعراء أولًا وآخرًا، ومن وقف على دواوينهم على ما أشرت إليه، وأشعر من هؤلاء الثلاثة عندي الثلاثة المتأخرون؛ أبو تمام والبحتري والمتنبي، فإن هؤلاء الثلاثة لا يدانيهم مدانٍ في طبقة الشعراء؛ أما أبو تمام والمتنبي فربا المعاني، وأما أبو عبادة فرب الألفاظ في ديباجتها وسبكها".

لكنك ستقف -لشدة اعتداده بنفسه- على ما ينفِّرك منه في بعض المواطن، فعلى واسع علمه ورجاحة عقله، لكنه في النهاية إنسان يعتوره النقصان، وقد كانت آفته تتجلى في زهوه بنفسه وفرط اعتداده بها، ودفعه غروره لانتقاص من سبقوه من الكتاب والعلماء والأدباء، يتبين ذلك في مقدمة الكتاب وفي مباحث شتى بين دفتيه، أشرنا لبعضها في مطاوي الحديث آنفا.


وصفوة القول إن المثل السائر سِفرٌ ماتع لمحبي الأدب، لا سيَّما أرباب القلم من الصحافيين والأدباء والكتَّاب، وفيه الكفاية والغُنية لمن طلب تعلم البلاغة العربية، ولن يتورع المرء عن الرجوع إليه مراتٍ بعد مرات.

والسؤال المفصلي الآن: أكان ابن الأثير أول من ألَّف في البلاغة؟ والجواب لا! -قولًا واحدًا- ثم يطل سؤال ملح: فلماذا يعد المثل السائر منارة بين كتب البلاغة العربية؟!

الجواب عن هذا السؤال تقتضي بالضرورة العودة إلى السؤال الأول، أو بالأحرى تناول تاريخ كتب البلاغة العربية، ثم إلقاء الضوء على مزايا المثل السائر. كتب عبد الحميد الكاتب (ت 132هـ) رسالة في فن الكتابة، ومن بعده وضع بشر بن المعتمر (ت 210هـ) صحيفة تعد نقطة ارتكاز رئيسة في دنيا البلاغة العربية -لا نتحدث هنا عن بلاغة أرسطو- وكتب أبو تمام (ت 228هـ) وصية للبحتري في صناعة الشعر. أفاد الجاحظ (ت 255هـ) من إشارة ابن المعتمر، وشكلت كتاباته فترة مخاضٍ لاهتمامات عربية بصناعة الكلام وفن التأليف، ثم نسج البلاغيون على منواله وعنه أخذوا. إن كان ابن المعتمر قد جعل من الخطابة منهجًا يتعلمه الناس -وصحيفته أكبر دليل على ذلك- فإن عبد القاهر الجرجاني قدَّم البلاغة علمًا جديدًا دعا الناس لدراسته.

في القرن الثالث الهجري، وضع ابن المعتز (ت 296هـ) كتاب "البديع"، ثم أقبل من بعده قدامة بن جعفر (ت 377هـ) وألف "نقد الشعر"، وحل القرن الرابع الهجري وكتب الآمدي (ت 371هـ) سِفره النقدي "الموازنة"، ومن بعده يؤلف القاضي الجرجاني (ت 392هـ) كتاب "الوساطة بين المتنبي وخصومه"، ويعد إضافة جديدة للمكتبة النقدية، ثم أشرقت على الدنيا شمس "الصناعتين" لأبي هلال العسكري (ت 395هـ). أما القرن الخامس الهجري؛ فشهد بزوغ فجر عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ)، وارتفع كعب كتابيه "دلائل الإعجاز"، و"أسرار البلاغة"، ومن بعده جاء ابن رشيق القيرواني (ت 463هـ) بكتابه "العمدة في صناعة الشعر ونقده".

مرَّ القرن السادس الهجري بطوله ولم يظهر كتابٌ في البلاغة، ثم أقبلت شمس القرن السابع الهجري، وكتب ابن الأثير "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر"، وقد قرأ كتب من سبقوه من النقاد والبلاغيين، وهضم محتواها وأحسن الإفادة منها، ولم يجتر ما قالوه، ولم يجمُد جمود القيرواني في النقل والعرض؛ فجمع آراء حصيفة وأضاف من خبرته الشخصية في دنيا الكتابة، ولم يتوقف عن التحسين والتجويد مدة اشتغاله بالتدريس والتأليف.

لهذه الأسباب وغيرها، يعد المثل السائر منارة في عالم النقد والبلاغة العربية، وحقيق بكل من يكتب أن ينهل من معين هذا السفر الماتع؛ ليهذب كتابته وينفي عنها شوائب تعكر صفوها، وليتحبّب إلى القارئ والسامع بجماليات الكتابة.

دلالات