المنتفعون من التاريخ... "جنيه إدريس"

المنتفعون من التاريخ... "جنيه إدريس"

05 سبتمبر 2019
+ الخط -
(1)

لا أريد أن أحكم مصر ولا أريد أن أقيد نفسي بعرشها:
رمق السلطان حسين كامل ابنه الأمير كمال الدين بنظرة خالطها العتاب بالغضب قائلاً: لقد فعلت ما لم يفعله أحد، وقبلت بما لا يقدر عليه آخرون حتى تجلس حضرتكم على هذا العرش.

رد ابنه غير مبال بما قاله الوالد السلطان: لا يهمني ما فعلته لأني لن أجلس على هذا العرش الملعون ما دمت حياً.

صاح بكل ما جمعه من القوة التي تنزله الفراش: لن تبقى حياً بعد اليوم لأن حضرتنا سيقوم ويخنق حضرتكم بيدي هاتين.

يفاجئه الأمير كمال بإخراج مسدسه وتوجيهه لنفسه فصرخ السلطان حسين كامل: ابعدوا عنه هذا المسدس، لعنة الله عليك وعلى العرش.

ثم أغمض عينيه آخذاً جولة في خاطره متذكراً عندما تولى حكم مصر خلال الحرب العالمية الأولى وكان يفتش الإنكليز عن ملك تابع لهم وكان وقتها الخديوي عباس لم يستطع العودة لمصر لأنه تم نفيه بعدما راهن على ألمانيا وتركيا بفوزهما فى الحرب. حتى تولى الملك حسين كامل واستقلت مصر اسمياً عن الدولة العثمانية، في حينها كانت محتلة فعلياً من الإنكليز.


وفي مرض السلطان حسين كامل رحل ولي العهد العاصي مع زوجته لفرنسا تاركاً حكم مصر تذروه الرياح ويتلاكم عليه أبناء أسرة محمد علي.

(2)

لقد رأيت رؤيا يا أفندينا وأريد أن أقصها عليك.. قالها بصوت يوحي بالفرح ولكن الآخر لم يلقِ للكلام بالاً لكنه استكمل كلامه قائلاً: لقد حلمت أنك ستصبح ملكاً لمصر.

فانتبه فؤاد لكلام خادمه ووقع الأمر في نفسه عظيماً لغرابة ما قاله رغم أنه يعرف أن السلطان مريض لكن بأبناء محمد علي من هو أكبر منه سناً وأكثر منه نفوذاً ودراية بأمور الحكم. ولكنه ظل واجماً صامتاً منتظراً دخول السفينة لميناء إسكندرية عندما قرر العودة والهروب من إيطاليا لأن الديون قد أغرقته حتى أفلس، فكما هلكت أمواله بين القمار والخمر والراقصات قضى عمره فى أوروبا متسكعاً حتى قرر العودة للقاهرة والاختفاء بأحضانها فى صمت.

ثم أكمل تابعه: رأيتكم يا أفندينا في قصر عابدين والجميع ينحنون لكم. وتابع فؤاد صمته وتابعت السفينة دخول الميناء.

"اقرأ آخر خبر، اقرأ السلطان حسين يتنازل عن حكم مصر"

اشترى الأفندي الغريب الجريدة وجعل خادمه يقرأها له لأنه كان لا يجيد اللغة العربية. وفي الجريدة نفسها قرأ أن الأمير عبد المنعم ابن الخديوي عباس ذهب لإنكلترا ليطالب بعرش أبيه.

فتجلت نظرة الحزن في عينيه لا يعلم ما تخبئه الأيام في جعبتها لترمي بأول سهام القدر وأول خطوات الأمل بالنسبة للأمير الحزين وهو أن طلب الأمير عبد المنعم تم رفضه بسبب منع نسل الخديوي عباس من حكم مصر للأبد.

ظل حبيساً مكتئباً لأيام لا يرى أحدا ولا أحد يراه سوى خادمه إدريس. وفي صباح اليوم التالي يفاجأ بدعوة من المندوب السامي. وذهب فؤاد للورد وينجت ووقف أمامه حتى رنت فى أذنه هذه الجملة بلهجة عسكرية:

سنقوم بدفع كل ديونك، واختارتك حكومة صاحب الجلالة لتكون ملك مصر، لا تخبر أحدا حتى يموت السلطان. انصرف الملك فؤاد منتشياً بفرحته التي أزالت همه الأزلي ودخل على خادمه إدريس وهو على سجادة الصلاة ليقول له: انهض إدريس بك.

نظر إليه إدريس متعجباً مما يقوله، حتى تابعه: تحقق حلمك الغريب وصورتك ستكون على أول جنيه تصدره حكومتي. وفي يوم 4 يوليو/ تموز 1924 صدر أول جنيه مصري يحمل صورة إدريس الأقصري.

دلالات

A03D0CDD-E864-4548-B17D-EBCC894B1E58
محمود أبو عبية

طبيب وشاعر وكاتب قصص قصيرة ومقالات متنوعة فى الفلسفة والتاريخ والأدب الساخر.. ابن الحارة المصرية وعابر سبيل فى دنيا الله.