أدب اللفظ وأدب المعنى (1- 3)

أدب اللفظ وأدب المعنى (1- 3)

22 اغسطس 2019
+ الخط -
بالقرب من ميدان طلعت حرب، وفي مقهى زهرة البستان، التقيت العميد أحمد أمين، وأفدت من نظرته للمشهد الأدبي، لم يختزل ثقافته في زاويةٍ واحدة، إنما اتسعت دائرة همومه واهتماماته الأدبية، ولمست منه تركيزًا على قضية اللفظ والمعنى.

بدأ العميد حديثه من زاوية حداثية، وبنوعٍ من الاحتجاج المبطن تارة والصريح أخرى، حمل على نجيب محفوظ ويحيى حقي وآخرين، بينما أثنى على بحثٍ نشره بيرم التونسي، وأطنب في الإشادة بتوفيق الحكيم ولويس عوض وعبد العزيز فهمي، بينما أمسك عن الخوض في مواقف عباس العقاد وطه حسين وإبراهيم عبد القادر المازني، ومدار هذا كله انحصر في نظرة هؤلاء جميعًا للعامية.

سألته دونما تجمُّل: لماذا تختلف كتابتك عن معاصريك؟ وقبل أن يجيبني نظر إلى ما على المنضدة من أوراق، واختلجت عضلات وجهه اختلاجًا لا يتطلب دقيق ملاحظة، ثم رفع رأسه قليلًا وزمَّ شفتيه بينما ضمَّ أصابع يسراه وقال: اسمع! اترك أحكامك المسبقة على باب المقهى، واستمع إليَّ متجرِّدًا منها تجرُّد القضاة، واحكم وفق ما أسوقه من دلائل وبراهين وقرائن، وإلا فلا حاجة للمرافعة إن كانت الأحكام جاهزة والتهم معلّبة؛ أليس كذلك؟!


لم أشأ أن أقاطعه؛ فاكتفيت بهزِّ رأسي بالموافقة الضمنية، وتركت له مجال القول ليخرج ما في جعبته، وبالمناسبة فإن أحمد أمين درس بمدرسة القضاء، ما أثر في حياته بشكل عام، وفي توجيهه لي بشكل غير مباشر تلحظه من عبارته السابقة! المهم وبعد هذه الديباجة التي ارتأى العميد أنها ضرورية، قال العميد: في مدرسة القضاء! علمونا الاهتمام بالكتابة، وتأثرت في كتابتي بأستاذنا عاطف باشا بركات ناظر المدرسة، لم يكن كاتبًا ولا أديبًا، لكنه امتلك ميزات ثلاث تفيد الأديب، هذه الميزات سمعنا أن بعض المنتجين في غرف الأخبار يكررونها على تلاميذهم ومساعديهم.

كان عاطف بك دقيقًا بالغًا في الدقة، فكان لا يرضى عن كتابةٍ إلا أن يعبر صاحبها تعبيرًا دقيقًا، ويؤاخذ على كل صغيرة وكبيرة فيها؛ فإذا كان اللفظ أوسع من المعنى أو أضيق منه لم يعجبه وآخذ عليه.

أما الميزة الثانية فكان يقدِّر المعنى أكثر مما يقدِّر اللفظ، فلا تعجبه العبارات الجوفاء ولا الاستعارات المتكلَّفة، وكثيرًا ما اختلف مع أساتذة الأدب في هذا الشأن؛ فكان يقدر الدرجة بصفر على موضوعٍ قدروا له درجةً عالية، والعكس صحيح؛ لاختلاف جهة التقدير.

والميزة الثالثة إعجابه الذي لا حدَّ له بالمجيد في نظره، واشمئزازه الذي لا حدَّ له من المسيء في نظره؛ فأعلن الإعجاب بطائفة شجعتهم على الكتابة، وأذكر أن من حسن حظي مرةً أن طلب إلى فرقتنا الكتابة في موضوع "أثر القرآن في العلوم العربية"؛ فكتبت موضوعي ولم يرق كثيرًا أستاذ الأدب، ولكنه وقع في يد عاطف بك فسُرَّ منه، واقترح إعطائي نهاية الدرجة وناداني وأعلن سروره منه، وظلَّ كلما أتت طائفة من العظماء لزيارة المدرسة -كقاسم أمين وسعد زغلول والشيخ عبد الكريم سلمان- طلب الورقة وقرأها عليهم وحملهم على الإعجاب بها.

هذا الرجل ترك في نفسي استعدادًا مختلفًا للكتابة، كنت يومها في السنة الأولى، وقد غمرني أستاذ الأدب بتشجيعه على الرغم من عدم تحمُّسه أول الأمر؛ فانطبعت في نفسي مأثرة ميَّزت كتابتي عن أقراني، وفي ذلك إجابة عن سؤالك، لم أتحمس لقول بعضهم "أكتب للاستمتاع"، وأتفق مع يحيى حقي في ما ذهب إليه؛ فإن من يكتب للاستمتاع لا يستحق أن يُقرأ له، وهذا يريد أن يطمئن نفسه ويخلع عليها هالة من الأمان، وعلى حد قول عبد الرحيم كمال فإن الأمان المطلق لا يصنع كتابة.

ومع التحفظات الكثيرة على فيلم "خيال مآتة"، لكنني أتفق مع عبد الرحيم في أن الأمان لا يصنع كاتبًا خالد الذكر ولا حتى موقوت الذكر. الكتابة في نظري عمل شاق يستلزم التعب وبذل الغالي والنفيس لقاء تقديم فكرة، ليس مجرد هبد على خبط ورزع والسلام؛ فإن الغثاء من حولك كثير حتى إنه ليبدو القاعدة والسواد الأعظم، ما يفرض عليك بذل مجهودٍ مضاعف لإزاحة الغثاء عن مساحتك الأدبية الخاصة، ثم تأسيس فكرتك على نظافة، وإلا فإنك تساوي نفسك بأدب وفن شعبولا وأوكا وأورتيجا ومجدي شطة وحمو بيكا!

وأشاح العميد بيده كأنما يريد أن يسب ويلعن، وقال بلهجة حازمة: كفانا أدب مهرجانات وكتابة متدنية الذوق، إن تفشي شطة وبيكا يستلزم تفعيل الأمصال الأدبية، أمصال لا تستسهل الكتابة أو ترفع اللفظ على المعنى، ولا تُقصي اللفظ لتفسح المجال للمعنى. هنا كان لا بدَّ أن أتدخل وأسأل العميد: إذن ما مقومات الأسلوب الأنجع للأديب وفق رؤيتك؟


مقومات الأسلوب وفق رؤيتي لا تختلف عن الحقول الجديدة، أعني بذلك تقديم البلاغة الجديدة على القديمة، وكما يعرف القارئ الفطن فإن البلاغة الجديدة تتمثل في الحجاج، والبلاغة القديمة قوامها الاستعارة والتشبيه والكناية والنغم اللفظي، وللأسف فإن الخطباء على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم يدندنون على وتر البلاغة القديمة، وتخرج من سماعهم بلا شيء!

الحجاج وفق مذهب شاييم بيرلمان وأولبريخيت تيتيكا جوهر البلاغة الجديدة، إقناع بالمنطق والبرهان والتفكيك والتركيب، تميز من خلاله التأويلات الفاسدة والقياسات الشمولية والمغالطات المنطقية وتداخل الحقائق، ويتمدد عقلك مع كل فكرة بما يضيف إليه ويوسِّع مداركه، لا أن يتقزَّم أو يختفي تحت وطأة الجرس الموسيقي والطرب اللفظي. أرجو ألا يُفهم من كلامي أنني ضد البيان والبديع، لكنني أقدِّم المعاني عليهما، وهذه مسألة قديمة متجددة.

ثمة فارق بين الرؤية القديمة والرؤية الحديثة للبلاغة، وزَّع أرسطو في بلاغته القديم الاهتمام على ثلاثة أقسام؛ المرسِل بقيمه الفضلى وانتقاءاته (الإيتوس)، والجمهور المستهدف بأهوائه وانفعالاته واتجاهاته، (الباتوس) والرسالة/الخطاب بشحناته الإقناعية والجمالية (اللوغوس)، لكن ليبرمان أعلى قيمة اللوغوس على أختيها، وغربل لغتها من المحسنات البديعية والصور والأخيلة غير الضرورية، ودشن بلاغة ارتكزت على الحجاج والإقناع. هنا يمكنني أن أقول -وباطمئنان لا يرقى إليه شك- إن ليبرمان انطلق -واسمح لي أن أضغط على هذه الكلمة لأهميتها- من أفكار أرسطو لكنه لم يتجمد حيالها أو يقدِّسها، وسنحتاج لهذه اللفتة بعد قليل.

والتقط العميد أنفاسه قبل أن يضيف: يجب أن يكون الأسلوب سهلًا واضحًا جميلًا جهد الطاقة، فإذا تأنقنا وملأناه بالمحسنات الفنية وعلونا في التعبير، انقلب الغرض من إصلاح شعوب وأمم إلى إصلاح عدد قليل من الطبقات الممتازة فقط. على أن القطعة الفنية في الأدب متى كان لها موضوع، وكان لها قضية تكشفها وتؤيدها وتدعو إليها، استغنت عن كثير من التجميل الأدبي، والغلو في الاستعارات والكنايات والمجازات؛ فإن هذه أشد ما يحتاج إليها عند خلو الكلام من موضوعٍ قيِّم أو أفكار قويمة سليمة.

ووجدتني- وعلى طريقة كريم كوجك- مضطرًا للتدخل، وطرح سؤال يعبث بذهن القارئ؛ فقلت قبل أن يبتلع العميد ريقه: لعلك تنكر من الأدب إلا ما ارتبط بحجاج أو منطق! ما موقفك من الشعر والقصة والرواية؟ أجاب العميد بوضوح: لست أنكر قيمة الآداب من شعرٍ أو قصص تحليلي أو روايات تحرك الخيال وتهذِّب المشاعر، لكنما ينصب حديثي حول بلاغة ليبرمان في مسألة الأدب الاجتماعي؛ لأن الأمة العربية بحاجة لهذا النوع أكثر من حاجتها لأنواع الأدب الأخرى بما فيها ما ورد في سؤالك.

وأضاف: أطمح أن يكون لنا في الأدب العربي أمثال جورج برنارد شو في الأدب الإنكليزي أو الأيرلندي، وأناتول فرانس في الأدب الفرنسي، وتولستوي في الأدب الروسي، وأمثالهم ممن وقفوا أدبهم على خدمة المجتمع وإشعاره بعيوبه واستثارته إلى التسامي. الأدب الاجتماعي يعلي قيمة الوعي الاجتماعي؛ فترقى الأمم وتتسامق إلى العلياء، بينما نحن نتمنى على الله أن يلعب الزهر!


وصمت العميد لا أدري ليشنِّف أذنيه بصوت أحمد شيبه في رائعته خالدة الذكر "آه لو لعبت يا زهر"، إذ كانت تلفح وجوهنا من كاسيت سيارة مرت أمام المقهى، أم أنه كان يصب عليها لعناته سرًا، واهتبلت السانحة فسألته سؤالًا وجوديًا في تاريخ الأدب العربي، وتصنعت الانشغال وأنا أسأله اتقاءً لحرج ربما يكسو وجهه، ولا أدري لماذا فكرت على هذا النحو، وقلت: أنت ممن هللوا لمقالة بيرم، وتجهمت في وجه نجيب محفوظ ويحيى حقي والقائمة تطول، ما بواعث هذه الازدواجية؟!

اعتدل العميد في جلسته، وقلب يمناه -مضمومة الأصابع عدا الإبهام- أمام صدره ظهرًا لبطن، وهو يقول: لأ.. لأ.. شوف! هي ليست ازدواجية، فنحن نتكلم عن حجاج وإقناع منطقي، وهذا يستلزم أن نضبط مصطلحات الحوار، ولعلك تذكر جملة عبد القادر عياض "اضبطوا مصطلحاتكم تستقم حياتكم"؛ فمدار الأمر هنا ينصب على نقطة ارتكاز واحدة.

ربما نسي القارئ الموقّر مقالة بيرم، ما يلزمني الإلماح إليها على وجه السرعة، وكانت تحتفل بما تحمله العامية للقارئ من منافع، وشكرته عليها وهنأته إذ وجد في نفسه جرأة لم يقوَ عليها كثيرون من أرباب القلم، هؤلاء ذكروني بحال أصحاب السلطان والكراسي والمناصب والنفوذ قديمًا -وربما إلى الآن نوعًا ما- فإنهم يتقربون إلى السابلة خوفًا على مراكزهم ليس إلا.

وحتى لا يتشعب الحديث؛ فإن بيرم التونسي قال قولة صدق، ورفع لواء العامية دون مواربة أو تحفُّظ، بينما يحيى حقي بدأ بالعامية ثم قفز عليها ليكتب بالفصحى، وتوفيق الحكيم كتب المسرحية بالعامية لكنه لم ينافح في ميدانها، وانزوى عنها إلى الفصحى، أما محفوظ فقد بدأ بالفصحى ولم يحد عنها، ولذلك هاجمه غيري كثيرون أذكر منهم الدكتور لويس عوض، لكنني رأيت في العامية سبيلا أوسع، ومايزت بين نوعين من الأدب وفق اللغة المستخدمة؛ فأدب العامة وأدب الخاصة! يمثل العامة السواد الأعظم من الشعوب، وهم المقياس الحقيقي لرقي الأمة وانحطاطها، وهؤلاء يتعاطون العامية أو اللهجة خطابًا ولغة حياة، بينما الخواص يلوكون ألسنتهم بالفصحى، ما يشعرك أننا نعيش عالمين متوازيين، ونجم عن ذلك تدني الذائقة الأدبية وانحسار مستوى القراءة إلى أقل مستوياته.

إن إقحام الفصحى في الموضوعات الأدبية التي تمس الحياة الواقعية ليس فيه الحياة التامة، ويضفي على اللغة نوعًا من الحياة لا تستفيده إذا عاشت بمعزل عن الاستعمال اليومي؛ فلكل كلمة وكل جملة تستعمل على الألسنة هالة غير المعاني المكتوبة في المعاجم؛ فإذا قصرت على التفاهم بين الخاصة لم يكن لها هذه الهالة. لقد ذكرت لك في ثنايا اللقاء علاقة ليبرمان ببلاغة أرسطو، وقلت حرفيًا إن ليبرمان انطلق من أفكار أرسطو لكنه لم يتجمد حيالها أو يقدِّسها، وأردفت بعدها بجملة (وسنحتاج لهذه اللفتة بعد قليل)، وهذا موضعها الذي ألمحت إليه؛ فإننا في مسيس الحاجة إلى التجديد وعدم التزمت والتجمد في قالب الفصحى؛ لأن الحياة لا تقف عند مرحلة واحدة، وعلينا أن نواكب الحياة.

هذا طرحٌ طرحته وإن قوبل بعاصفة من الرفض والاستهجان، لكنني لست أقل شجاعة من بيرم التونسي، وأعترف أنه رأي لم تثبت فائدته في عالمنا العربي، وأجد في نفسي الشجاعة للاعتراف بهذا الخطأ؛ فلست معصومًا ولا أتنصل من تبعاتي. أرى أن مسألة اللغة شائكة، وأوقن أن من لا يقدر على الكتابة بالفصحى سيهلل لما أقوله فرحًا، وأن المتمكن من اللغة الحاذق بها سيسفه ما أرمي إليه، وأما أهل الأعراف في اللغة ممن لم يتمكنوا من ناصيتها ولم يفرطوا فيها بالجملة؛ فإنهم مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ولولا اختلاف الأذواق لبارت السلع.

ثم قال لي العميد ألديك مزيد من الأسئلة؟ ولما كان الرد بالإيجاب، قال لي "لاست كويسشن" (بالعربية آخر سؤال لا مؤاخذة)؛ فقلت سأرمي له الكبيرة أو التقيلة، واللي في الدست تطلعه المغرفة، سألته: لماذا تكره الإعراب؟ وخطر لي أن أسوق له من أقوال الأعراب ومدحهم أهل النحو واللغة، وذمهم لمن يهذي في النحو هذيان المحموم، لكنني خشيت أن يطول سؤالي بمقدمة ملهاش أي تلاتين لازمة؛ فاكتفيت بالسؤال مِشفي من أي ديباجة، وكان سؤالي حتى لا تنساه: لماذا تكره الإعراب؟

لست أكره الإعراب -قالها محتدًا قبل أن يسوق أطروحته- إنما أنا ناصحٌ أمين -بالرغم من أنه أحمد أمين- فأنا يؤسفني أن يتكعبل الشباب في الإعراب ولا يجيدونه مع دراسته لسنوات؛ فاقترحت اصطناع لغة عربية خالية من الإعراب، وخالية من الألفاظ الضخمة، ومستعمِلةً للكلمات العامية التي هي أيضًا عربية ومجردة من خرفشة اللغة العامية؛ فنقول "لا أحب" بدل "ما أحبش"، وبدل لازمة فاتنة الشاشة (المتوسططة) أيتن عامر "أحبوش"، وكذلك "سأعمل" بدل "حاعمل"، وتسكين أواخر الكلمات كلها من غير إعراب.

حين قال العميد كلماته الأخيرة، بدرت مني مجموعة ألفاظ الحمد لله أنها لم تقفز من فمي، ويبدو أنه قرأ بعضها، فاستدرك يقول: إن لغة الوقف (تسكين الآخر) ستصدم من غير شك بعض العقول لأنها غير مألوفة، ولكن أرجو أن تُبحث في هدوء على ضوء المنفعة لا على ضوء التعصب القديم. عندها، استأذنت منه لارتباطي بموعد طارئ، لا لشيء إلا لأنني وددت أن أجلس في هدوء على ضوء شمعة، وأفرغ ما في صدري من سخط على حوار تسكين الآخر ده، وسأعود بعد وقت ليس بالقصير لمناقشة العميد في أطروحته.

دلالات