الأدباتية.. لمن يكتب الكاتب؟ (2-2)

الأدباتية.. لمن يكتب الكاتب؟ (2-2)

19 اغسطس 2019
+ الخط -
انعقد المجلس لليلة الثانية، وارتأى البعض أن نواصل ما انقطع من الحديث، ورمى أحدهم جملة افتتاحية يثير بها الجو ويجتذب بها الآذان؛ فقال بعد النحنحة "أنا مش فاهم معنى قولهم أنا بكتب للاستمتاع.. يعني تستمتع وتقرفنا؟! أما عجايب والله"، هاج الناس ضحكًا وماجوا، وقال أحدهم مخاطبًا عمنا يحيى حقي: ما رأيك في هذا الكلام يا عمنا!

قال حقي: كنت أكتب في جرائد غير مقروءة، وكنت في غاية السعادة؛ لأنه حين لا أحد يقرأ هذه المقالات أستشعر حرية كاملة، وكنت أقول الجملة نفسها "أكتب للاستمتاع"، لكني أدركت المغالطة في هذا الادعاء؛ فلو أنني أكتب لسعادتي الشخصية، لماذا أراني أطرب لنشر المقال، وأتشوّف لرؤية انعكاساته على الحركة الأدبية، وتأثيره في الناس من حولي، كلّ ذلك ينسف أكذوبة الكتابة للاستمتاع. لو أن الكاتب يكتب للاستمتاع؛ فلا مبرر للنشر ويكفيه أن يكتب ويدفن ما يكتبه في درج مكتبه.

وفي أنشودة للبساطة أقول ذلك بوضوحٍ شديد، وأنقل إليكم واحكموا بأنفسكم: (يقول بعض الكتاب: إنني أكتب لنفسي، لا لأحد غيري! وقد يضيف: إنني لن أتنازل عن عليائي لأن الفن لا يمتهن. لقد شاع هذا القول وردده التلاميذ عن الأساتذة، وقد آن أوان كشف زيفه؛ فما هو في الحقيقة إلا وهم المخدوع بنفسه، وشقشقة فارغة تندرج بين الطقوس الفارغة التي تحب كل فئة أن تحيط نفسها بها؛ لتضمن تفردها واستقلالها وامتناعها على غير أربابها. فمحال أن نتصور بقاء قدرة الكاتب على الكتابة طويلًا إذا ظل لا يكتب إلا لنفسه، من الذي يضمن له أن نكته الجديدة التي يضحك لها هو، سيضحك لها أيضًا جمهور القراء! لا بد أن يكون في قاع ذهن كل كاتب إحساس بأنه يخاطب جمهورًا).


في مقالتي "الفقر اللغوي"، حذرت الكتاب من الاستماع لرأي كتاب كبار، وإن كانت لهم مكانة في الحياة الصحفية والأدبية في مصر، وكنت أحذر من كبار الكتاب على أيامي، ولست ملِّمًا بحالهم اليوم، لأن في وقتنا كانت الفصحى بمثابة "البعبع" حتى لكبار الكتاب؛ فمبعث تحذيري أن هؤلاء الكبار نادوا بنبذ الفصحى، وتعالوا عليها بحجة أنها لغة لا تصلح للعصر، وزعموا أنها لغة البادية والصحراء والخيام. بعض هؤلاء الكبار افتخر أنه لم يفتح قاموسًا يومًا ما، وبعضهم ود لو ألقى بكل كتب العربية في البحر، ولم يستثنِ إلا كتاب ألف ليلة وليلة!

إن اللغة خيط، ولا ينبغي لأحد أن يضع يده على جزء من هذا الخيط، ويحصر اللغة كلها فيه. يواصل يحيى حقي دفاعه عن العربية وتلتمع العيون وهي ترقبه يقول: إنها لحسن الحظ، بل من أعجب العجب أيضًا، أنها قد اهتمت بأن تصوغ ألفاظًا لكل الفوارق الدقيقة.. لا بين الألوان فحسب، بل بين أطياف هذه الألوان، ومهمة الكاتب هي الانتباه لهذه الفروق وإبرازها في أقل عبارة ممكنة. لا يستخدم مطرقة ضخمة لكسر بندقية؛ فالإيجاز والحتم والتحديد والوضوح هي وسيلة للوصول إلى الأعماق.. للإجادة والإتقان.

لا أتصور كاتبًا يجهل لغته، بل لا بد أن يعشقها عشق المُدَلَّه المتيَّم، ومن دلائل الفقر اللغوي خضوع الكاتب خضوعًا أعمى للموضة الشائعة في التعبير. يحفظ بعضهم عشر كلمات وينثرها نثر الشيف نصرت، ظنًا منه إنه يقف في نصرت ستيك هاوس، وأنه يقدِّم للقارئ وجبة تملأ العين والمعدة!

وفي مقالة "الموضة اللغوية" سجلت على الكتَّاب التزامهم ألفاظًا بعينها، ومن ذلك: "أراهن نفسي قبل أن أقرأ قصة ناشئة على أنها لا بد أن تتضمن ألفاظا معينة، أشهرها عندي قوله: (دلف، مارس، إفراز، تقوقع، مصلوب، عفويته)، وفي أحيان كثيرة أكسب الرهان وأنا حزين؛ فهذه ألفاظ تكاد لا تخلو منها قصة من قصص الكتاب الناشئين حتى لينطبق عليهم المثل البلدي الجلف سقيم الذوق (بصقَ بعضُهم في فم بعض).

وأعلن لهم ضجري من هذه الظاهرة، وهي عندي من نتائج الفقر اللغوي؛ فلا يجد الكاتب للتعبير عن معنى إلا لفظًا واحدًا؛ فيستخدمه في جميع المواضع حتى أنه يتكرر في القصة الواحدة أكثر من عشرين مرة.. دلف إلى الباب، دلف إلى الفراش، دلف إلى القهوة، دلف صباحًا، دلف مساءً، دلف وهو متعب، دلف وهو نشيط. دع عنك ما يحدثه هذا الجمود والتكرار من ملل؛ فإنك ستحس أيضًا بوضوح أن القصة فقيرة، والفن لا بد أن يوحي لك بالثراء اللغوي الفاحش.


هؤلاء جُبِلوا على تكرار ما سمعوه، لم يدر بخلد أحدهم الابتكار والتجديد، وأذكر أن أحمد لطفي السيد استخدم تعبير "غير ذات أهمية" في مطالبته بإلغاء بمعاهدة 1936؛ فذاع وانتشر وكان محسوبًا له، وابتكر خليل ثابت رئيس تحرير المقطم لفظ "مبستر" في وصفه الخبر المذاع قبل التأكد من صحته، وادعى سلامة موسى أنه استحدث كلمة "الثقافة".

يبدو أن الكلام أجهد الرجل؛ فآثر أن يستريح قليلًا، وأشعل سيجارته وطلب فنجان قهوة سادة، وأوعز إلى بعض مريديه أن يستلم دفة الحديث؛ فلم يتأخر قيد أنملة، وقال بعد النحنحة: وفي موضع آخر من كتاب "أنشودة للبساطة"، أخذ عمنا حقي بأيدي الشباب، ووضع بين أيديهم مجموعة من النصائح للكتابة، من بينها سلامة اللغة، يقول على سبيل المثال: ".. أحس إحساسًا ثقيلًا بأنني أقرأ، عند وصولي إلى مواضع تبدو لي كالمطبات التي تعوق سيري وتتوقف عندها قدماي، مثالها الأخطاء النحوية. وهي كثيرة للأسف؛ لأنها ليست وليدة الجهل بالقواعد، بل وليدة استهانة من الكاتب برسالته وشرف كلمته؛ فكل هؤلاء الكتاب الناشئين يعلمون أن كان وأخواتها ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، وأن أنَّ وأخواتها تفعل العكس.. فهل من العسير عليهم إذا وردت في كلامهم أن يتابعوا أين المبتدأ وأين الخبر، ولو فعلوا فلربما أعادوا صياغة الجملة كلها في صورة أحسن.

وواصل الرجل الحديث نيابة عن يحيى حقي، وموضِّحًا للمتحلقين في مقهى ريش: ثم يمضي عمنا في حديثه عن أسلوب شباب الكتاب ليقول إن "الإبهام الناشئ من قلة الإلمام بخصائص الجملة العربية، وأصول ترتيب الكلام ونصه على بعض، إنني لأقف أحيانًا كثيرة عند ضمير الغائب لأبحث عن مرجعه، وأستبعد الأقرب والقريب لأصل قبل أن أفهم إلى الأبعد لا البعيد بمسافة سطرين أو ثلاثة، ويجمل الكاتب بقارئه ولا يرهقه؛ فيعفيه من مشقة ربط الكلام ليقوله إن شاء في مشقةٍ أهم وأعظم. وهي اللحاق به وهو يغوص في الأعماق أو يخترق الدياجير أو يحلق في السماوات.. ".

ويضيف: "والجملة العربية تميل إلى الإيجاز من أجل الوضوح، وكلما طالت زاد تعرضها للإبهام، والكاتب الناشئ يميل لاستخدام الجمل القوية الطويلة؛ فإذا رواها لك شفاها لم يستخدم إلا الجمل القصيرة. هكذا أريد لهم: إن الأساس المبدئي الذي يقيمون عليه فيما بعد الصورة الأخيرة لصرح أسلوبهم الأدبي الأنيق الفصيح هو اقتراب المكتوب من المنطوق، لتكن البذرة هي تصورهم أنهم يتحدثون إلى سامع، وحبذا لو كان الحديث كأنه مسارة، وهمس وفي خلوة؛ فلا تكون الكتابة وسيلة لتعقيد الحديث السهل، بل لتعميقه وتجميله ورفع غماره إلى قمة النبل".

شعر بعضهم أن الرجل يستشهد بكتاب أنشودة للبساطة، وأراد أن يثري الحديث فطلب الكلمة وقال وهو يركز على جملته الافتتاحية: وفي كتابه "صح النوم".. وسمعنا الجملة فشعرنا بكسر لرتابة النقل عن مصدر واحد، فإننا لليلة الثانية على التوالي والتوازي والتقاطع نسمع الاقتباسات من كتاب واحد؛ فما أجمل أن ينقلنا هذا الرجل ويحيلنا إلى مصدرٍ ثانٍ، وكأنما راقت كلماته الجميع بمن فيهم يحيى حقي؛ فأشار إليه أن يرفع صوته ويتحفنا بما عنده!


قال الرجل: نعم! نعم! في كتاب صح النوم -كررها إمعانًا في لفت الأنظار وتأكيدًا على إضافته الجديدة- وتحت عنوان (فترة تريث) يقول عمنا يحيى حقي: "إنني أكتب هذه المذكرات مقطعة، على مهل، أنتزع لها الوقت انتزاعا، ولكني لا أبدأ فصلًا جديدًا إلا إذا تلوت بعين الغريب كل ما سبقه كلمة كلمة؛ فبهذا وحده يدخل الكاتب في الجو الذي تركه، ويتسق أسلوبه، وتشرب فصوله كلها من معين واحد، ولو ترك نفسه -وهو بشر- عبدًا للساعة التي هو فيها لتباين قوله في غير مطلب فني؛ فهو حينًا نشط ساخر، وحينًا ضجر ملول، وأحس القارئ الناقد أنه يسير في طريق غير مستوٍ، بعضه معبد وبعضه مليء بالحفر".

وأنقل إليكم عن حقي قوله "ولهذه التفلية نفع آخر؛ فإنها تعين على اصطياد الألفاظ الكاذبة، ولبعض الألفاظ طبائع الطفيلي، تندس في الكلام كأنما بدافع الغيرة توهم أنها خير لباس يصلح للمعنى، في حين أنها تفسده وتقلب جده مزاحا ومزاحه سماجة؛ فيقصيها الكاتب ويمد يده بعد أن برأ من خداعها إلى الألفاظ الصادقة؛ فتأتي له على استحياء، شأن كل حر أنوف لقى من قبلي صدا".

وقد يرى الكاتب أنه رفع بعض البديهيات إلى مصافِ الحكم، أو أنه أوجز قولًا مغمض وكان يحسبه في نجواه لنفسه بينا، أو أنه أتى بأدلة أخرى بعد البرهان القاطع، وقد يرى أنه سقط فريسة سهلة في حب لفظٍ واحد فهو يتكرر كل سطرين أو ثلاثة؛ فيعجب كيف فعل هذا! ويلوم نفسه ويجري قلمه بإزالة هذا الشطط، ولعله يزيله بشطط جديد أشد نكرًا وحماقة.

وشعر يحيى حقي بين تلاميذه بالحبور، وأدرك أن مدرسته لامست قلوب بعض الحضور، وأنهم سيمضون على طريقه وطريقته، وأن الكتَّاب فيهم بقية من خير، وأن الدعاية على مواقع التواصل الاجتماعي لا تصنع كاتبًا مديد العمر، وإن كانت تصنع كتّابا لأجل مسمى وشهرة موقوتة تنتهي بانتهاء مدة الدعاية، فلم يروِّج أحدهم لنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وعبد الحميد جودة السحار وعلي أحمد باكثير وأمين يوسف غراب ويوسف عوف وثروت أباظة وغيرهم من القامات السامقة في دنيا الأدب.

لا نتجاهل دور مواقع التواصل وقيمتها، لكن الإشكالية أن بعضهم يهتم بالدعاية ولا يهتم بالكتابة؛ فأي كلام فاضي يباع إذا صاحبته دعاية قوية، أما البقاء الأدبي فلا يتحقق إلا للأعمال الإبداعية، أعمال ركزت في الأدب نفسه قبل البهرج الدعائي الخداع، ولذلك تجدنا نتحلق حول يحيى حقي وأمثاله الساعات الطويلة، بينما نتقلب على جمر التأفف عند حضورنا حفل توقيع أو مناقشة عمل أدبي خفيف القيمة هزيل المحتوى والفكرة.

في لقاء مقبل، نتعرض لحديث العميد أحمد أمين عن جوانب ذات صلة، وندور معه في فلك إجابته عن سؤال ما الذي ألهمني الأدب؟ ونتعرف على وجهة نظره في الفرق بين أدب اللفظ وأدب المعنى، ثم ننتقل إلى غوستاف فلوبير ونظرته للفكرة ذاتها، حتى ندرك الأهمية القصوى للمسألة في عالم الأدب والأدباء وتأثيرها في ذائقة القارئ.