لقاء السحاب

لقاء السحاب

09 يوليو 2019
+ الخط -
في لقاء صحافي مع النحوي الكبير، تحدث أبو إسحاق الزجَّاج من القلب، وفي شهادته على العصر، أبدى تفاؤله بحماسة الشباب العربي وصبرهم الجميل، لا سيما مع ارتفاع الأسعار والتضييق الممنهج عليهم -وفق تعبيره- وإن لم يُخفِ امتعاضه من بعض الشباب السيس، وأرسل تعازيه الحارة للخروج المبكر والمؤسف من بطولة الأمم الأفريقية.

وتذكر الزجَّاج بداياته فقال: اسمي إبراهيم بن السري، وكنيتي (أبو إسحاق)، أما عن لقبي فأخذته من صنعتي إذ كنت أخرط الزجاج فلقبني الناس بـ(الزَجَّاج)، وعِفتُ الصنعة ومناهدة الزبائن والعملاء، واشتهيت النحو وعزمت على استكمال دراستي؛ فلزمت أبا العباس المبرِّد، وكان لا يعلم مجانًا، ولا يعلم بأجرة إلا على قدرها؛ فقال لي: أيُّ شيء صناعتك؟

ولأن الشرط عند الحرت نور، والمشروطة محطوطة، صارحته من البداية فقلت: "أخرط الزجاج، وكسبي كل يوم درهم ونصف درهم، وأريد أن تبالغ في تعليمي، وأنا أشرط أن أعطيك كل يوم درهمًا إلى أن يفرق الموت بيننا، استغنيت عن التعلم أو احتجبت إليه". ويواصل الزجاج خيط ذكرياته مع المبرد قائلًا: فلزمته، وكنت أخدمه في أموره، ومع ذلك أعطيه الدرهم، ونصحني في العلم -أي أخلص له- حتى استقللت. وفي بعض الأيام، جاء كتاب من بعض الأكابر من الصراة -اسم مكان- يلتمسون معلمًا نحويًا لأبنائهم؛ فقلت له: أسمني لهم فأسماني؛ فخرجت فكنت أعلمهم وأنفذ إليه كل شهر ثلاثين درهمًا، وأتفقده بعد ذلك بما أقدر عليه.


وردًا على سؤال الصحيفة للزجَّاج عن شعوره وقتها، ولماذا يقبل على نفسه أن يواصل الدفع للمبرد على الرغم من استقلاله؟! ابتسم أبو إسحاق وهو يمسح براحة يده على وجهه، وقال: كان المبرد أبخل من جوني ديب، ويعقوب صروف، وتوفيق الحكيم، ويفوق بخله بخل سهل بن هارون بعشر سنوات ضوئية، وقد نافس أحمد بن يحيى ثعلب في النحو والبخل! لكنني أحببته أضعاف حبي لثعلب، وهذا الحب موضوعي غير ذاتي، وقد بدأت طلب العلم في مجلس ثعلب، لكنني فُتنتُ ببراعة المبرد وقوة علمه.

وواصل الزجَّاج ذكرياته: بقيت على ذلك مدة، ثم طلب عبيد الله بن سليمان مؤدبًا لابنه القاسم؛ فقال له المبرد "لا أعرف لك إلا رجلًا زجاجًا عند قوم بالصراة"؛ عبيد الله فأحضرني من عندهم، وكان ذلك سبب ما نالني من الغنى. لو أنني قطعت ما أدفعه للمبرِّد لما تذكرني ولا رشحني عند الوجهاء، والدنيا شيلني وأشيلك، بالأمس كنت أدفع له لأتعلم، واليوم أدفع له لأفيد من قوة علاقاته، وفي الوقت ذاته اعترافًا بأستاذيته واحترامًا لقدره ومكانته في قلبي، تمامًا كما يتعهد الولد الصالح أباه بالبر والطاعة.

وسألته: لكن ما سر انقطاعك للمبرد وتركك ثعلب؟ فأجاب الزجَّاج: أخذت من المبرد بعد أن كنت من تلاميذ ثعلب، ولست أفهم سبب اتهامي بنكران جميل ثعلب؛ فأنا لم أنكر فضله على الإطلاق، لكنك ترى اللاعب يترك ناديه المحلي ليحترف في مكانٍ أفضل، ليس شرطًا أن يجمع أموالًا، بل الأهم أن يجمع خبرات أكبر، والمال سيأتي لاحقًا. واسمح لي من خلال صحيفتكم الموقرة أن أشكر جمال الدين القفطي، هذا الصعيدي الشهم، الذي نقل القصة في سِفره "إنباه الرواة على أنباه النحاة" بموضوعية دونما تحيز أو فبركة.

وخلاصتها أنه لما قُتِلَ المتوكل في سُرَّ من رأى والمعروفة لكم اليوم "سامراء"، دخل المبرد بغداد؛ فقدم بلدًا لا عهد له بأهله فاختل وأدركته الحاجة، وتوخى شهود صلاة الجمعة، فلما قضيت الصلاة أقبل على بعض من حضره وسأله أن يفاتحه السؤال ليتسبب له القول، فلم يكن عند من حضره علم؛ فلما رأى ذلك رفع صوته وطفق يفسر ويوهم أنه قد سئل، وصارت عنده حلقة عظيمة، وهو مستمر في مواصلة كلامه.

تشوَّف أحمد بن يحيى ثعلب إلى الحلقة (حَلْقَةٌ والجمع حِلَق وحَلَق وحلْقات وحِلاق)، وكان كثيرًا ما يرد الجامع قوم خراسانيون من ذوي النظر؛ فيتكلمون ويجتمع الناس من حولهم؛ فإذا أبصرهم ثعلب أرسل من تلاميذه من يناقشهم، فإذا انقطعوا (عجزوا) عن الجواب، انفض الناس عنهم. فلما رأى ثعلب كثرة الناس حول المبرد، أمرني والمتحدث هنا الزجَّاج وابن الخياط بالنهوض، وقال لهما: فُضا حلقة هذا الرجل، وقام معهما من حضر من تلاميذ ثعلب؛ فلما صاروا بين يدي المبرد قال له الزجاج: أتأذن –أعزك الله- في المفاتشة؟ فقال المبرد: سل عما أحببت!

سألت المبرد وأجابني ثم قال: أقنعت بالجواب؟ قلت: نعم! فأدهشني المبرد بقوله: فإن قال قائل في جوابنا هذا كذا وكذا، ما أنت راجعٌ إليه؟ وجعل المبرد يوهن جواب المسألة ويفسده ويعتل فيه؛ فبقيتُ سادرًا لا أحير جوابًا، ثم قلت: إن رأى الشيخ أعزه الله أن يقول في ذلك! فقال المبرد: فإن القول على نحو كذا وكذا؛ فصحح الجواب الأول وأوهن الاعتراض؛ فبقيت مبهوتًا باتساع علمه وقوة جوابه وحضور بديهته.

فقلت في نفسي: قد يجوز أنه كان حافظًا لهذه المسألة مستعدًا للقول فيها؛ فسألته مسألة ثانية، ففعل المبرد فيها ما فعل في الأولى، وبلغت الأسئلة أربع عشرة مسألة، والمبرد يجيب كأجود ما يكون الجواب. فلما رأيت منه ذلك قال لأصحابي: عودوا للشيخ -يقصد ثعلب- فلست مفارقًا هذا الرجل، ولا بد من ملازمته والأخذ عنه؛ فعاتبني أصحابي وقالوا: تأخذ عن مجهول لا تعرف اسمه، وتترك من شُهِرَ اسمه وعلمه! قلت: لست أقول بالذكر والخمول، ولكن أقول بالعلم والعمل.

ولزمت المبرد فسألني عن حالي كما تقدم في بداية الحوار؛ فأخبرته برغبتي في الأخذ عنه، وذكرت له أنني قد حبست نفسي على التعلم، إلا ما يشغلني من صناعة الزجاج خمسة أيام من كل شهر؛ فأتقوَّت بذلك الشهر كله، وأجريت على المبرد ثلاثين درهمًا في الشهر، وأمرني بإخراج كتب الكوفيين، ولم أزل ملازمًا له آخذًا عنه حتى برعت من بين أصحابي، وبلغت مكانتي عنده منزلة لم يصلها غيري؛ فكان لا يقرئ أحدًا كتاب سيبويه إلا إذا قرأه عليَّ وصحح كتابه بي، وكان ذلك أول رياستي وارتفاع نجمي.

بذلك، كنت أول من تتلمذ على يد المبرد في بغداد، وأول من دفع له أجرًا فيها، وظللت وفيًا له طوال حياته، ولما أدركته الشيخوخة، وكان المعتضد قد طلب إليه تفسير بعض الكتب فقال: "إن هذا الكتاب طويل يحتاج إلى تعب وشغل، وقد كبرت سني وضعفت قوتي؛ فإن دفعتموه إلى صاحبي إبراهيم بن السري الزجاج رجوت أن يفي بذلك". كان المبرد الأب الروحي لي في النحو، وقد وضعت كتابًا في الرد على ثعلب انتصارًا لأستاذي وصديقي المبرد، ولم أتزحزح عن وفائي للمبرد قيد أنملة، ووقفت مدافعًا عن آرائه ولا وقفة الهولندي فيرجيل فان ديك.

وأذكر أنه لما أفرط ثعلب في النيل من المبرد، قال المبرد بيتين من الشعر: (رب من يعنيه حالي وهو لا يجري ببالي/قلبه ملآن مني وفؤادي منه خالي)؛ فلما سمع ثعلب البيتين أدرك أن المبرد لا يهتم لوجوده من الأساس؛ فأمسك عن الحديث فيه. يضرب الزجَّاج كفًا بكف وهو يقول: الغريب في الأمر أن الناس تفيق من سكرتها بعد فوات الأوان، إن ذلك لشيء يدعو للسخرية!

ولتقف على أهمية المبرد، أحيلك إلى أبي علي أحمد بن جعفر النحوي -زوج ابنة ثعلب- وكان يخرج من بيت ثعلب، وهو جالس أمام بيته، ويأتي بدفتره ومحبرته ليزاحمنا ويقرأ على المبرد كتاب سيبويه! ولما عاتبه ثعلب يومًا وقال له: ماذا يقول الناس إذا رأوك تمضي إلى هذا الرجل تقرأ عليه؟ لم يلتفت إليه أبو علي ولم ينقطع عن مجلس المبرد.

دلالات