الجنة كان اسمها بيروت (2)

الجنة كان اسمها بيروت (2)

09 يوليو 2019
+ الخط -
في وسط زحمة التحليلات المقلقة والآراء المربكة ظللت أستمع أنا وزوجتي إلى تحذيرات تتردد بين من حولنا عن عصابات مسلحة تستغل الفرصة؛ لكي تختطف الراغبين في الفرار عبر الطرق البرية إلى سورية لتقوم بقتلهم وبيع أعضائهم الطازجة في تجارة الأعضاء الرائجة في المنطقة منذ زمن، أتذكر المبالغات التي لطالما سخرت منها، لكنني في الحقيقة أخشى الطيران الإسرائيلي الغادر أكثر من تلك العصابات التي يتحدثون عنها، أستقر بعد طول تفكير على أنه من الأفضل أن نستقر في الفندق ببيروت حتى يتم افتتاح المطار، أقول لزوجتي وتقول هي لي: «لن يستمر الأمر هكذا.. لن يقف العالم يتفرج على لبنان.. ستكون هناك جهود للتهدئة.. الأفضل أن ننتظر وما يجري على الناس يجري علينا بدلا من الموت المجاني على الطرق البرية غير الآمنة»، نغني ونرد على بعض، أليس ذلك من أمارات الحب ودلالات صدقه؟

قررنا أن نخرج من حبستنا في الفندق إلى براح الشارع، يحذروننا من الذهاب إلى شط البحر الأقرب إلينا حيث تقع المنارة الشهيرة وصخرة الروشة التي اشتهرت بكونها مقصدا لراغبي الانتحار الصاخب، كان لهم حق فقد قصفوا المنارة في اليوم التالي مباشرة وأطفأوا نورها. في هذه الأيام لم يعد هناك داع لكي تذهب إلى صخرة الروشة لكي تنتحر، إذا كنت جادا فاذهب إلى الضاحية الجنوبية وانتظر دورك في الموت. اخترنا أكثر الأماكن صخبا لكي نهرب من صوت الطائرات الإسرائيلية التي تحلق في السماء فتنشر الفزع والمهانة في ذات الوقت، رأيت الممثل الكويتي الجميل داود حسين يجلس مع أسرته وشغّالتين آسيويتين يأكلون بشهية مفتوحة ما شاء الله، أكبرت في الرجل أنه يجلس الشغّالتين معه على نفس "الترابيزة" كأنهما من أفراد عائلته على عكس ما تعودت أن أرى من سلوك الكثيرين من الأثرياء العرب على مختلف جنسياتهم، تونّست بالرجل الذي لطالما أضحكني فنه، قلت لزوجتي لمزيد من الإقناع باختيارنا المجازفة بالبقاء في بيروت المقصوفة: «شايفه أهوه نجم قد الدنيا وقاعد لحد دلوقتي.. لو كان في مشكلة كان سافر على طول.. أكيد سأل في السفارة بتاعته وقالوا له الموضوع مش هيطول».

سرى ارتياح في نفسينا مكننا من التأمل طويلا في مينيو الأكل واستطعام ما طلبناه منه، بقينا في المطعم طويلا وقد وجدنا في الموسيقى العالية التي تنبعث في جنباته مهربا من أصوات الطائرات المقبضة، لكن لن نظل في المطعم إلى الأبد، خرجنا لنتمشى، للحظات انقطع صوت الطيران الإسرائيلي، لكنه عاد مجددا لينشر الرعب والهوان في المدينة، على الشاشات تتوالى تحذيرات حزب الله لإسرائيل بأنه سيقصف حيفا إذا تم قصف الضاحية الجنوبية وبيروت، التحذير جاء ردا على طلعات الطيران الذي اتضح أنه طيران يقوم بطلعات تجسس لم نعرف هدفها إلا في المساء.


عندما بدأت أسأل عن الملاجئ أخذ الناس يروون ذكرياتهم معها في زمن الحرب اللبنانية وزمن الاجتياح الإسرائيلي الذي يعود ثانية الآن، كانت الناس تذهب إلى الملاجئ لتقنع نفسها بأنها آمنة لكنهم كثيرا ما ماتوا فيها وأصبحت قبورا جماعية لهم، آخر يقول إن الملاجئ كانت وسائل ناجعة في زمن الاقتتال اللبناني الأهلي لأن قوة القذائف الشقيقة لم تكن كافية لتدمير الملاجئ، الأخطر من الموت في الملاجئ كان المشي في الشوارع والقتل على الهوية، لكن القذائف الإسرائيلية التي تزن عشرات الأطنان هي كافية لقتل من في سابع أرض. يا الله، لن يبحث الإنسان عما يطمئنه عند أهل هذه المدينة أبدا، لنذهب إذن إلى سابع أرض لنقنع أنفسنا أننا بذلك نهرب من التوتر، إلى سينما كونكورد في الفردان ذهبنا، قاعاتها تقع تحت الأرض مشكلة ملجأ مثاليا للهرب من أصوات الطائرات، قررنا أن ندخل فيلمين الواحد تلو الآخر، كانت السينما مليئة بالهاربين من أمثالنا، وهو ما فسر لي لماذا لم ألمح نظرة دهشة على وجه قاطعة التذاكر عندما اشتريت تذاكر لفيلمين مرة واحدة، كنا متشككين أصلا عند ذهابنا إلى السينما أن نجدها مفتوحة للناظرين، لكنها كانت تغص بهم، مشاعر الرغبة في الهروب التي تسود السينما منبعثة من الجميع تنجح في جعلنا نندمج في الفيلم، ثمة مشهد ساخن يعبر على الشاشة يجعلني أقول لزوجتي: «ادعي الله ألا ينقض على السينما صاروخ الآن بالذات، لن يكون هذا مشهدا مناسبا نلقى الله به».

في الاستراحة نخرج لنسمع أصوات الطائرات التي لا تنقطع، نستمع إلى آخر الأخبار من الراديو الذي يضعه على أذنه بائع الفشار، نعود إلى الفيلم ونخرج منه إلى خارج السينما لكي نأكل شيئا قبل أن نعاود الدخول إليها ثانية، إسرائيل تعلن عن سقوط صاروخ على حيفا من حزب الله وحزب الله ينفي، الناس المتجمعون حول التلفزيونات المتناثرة في مطاعم المول التجاري يستغربون نفي حزب الله، هل لدى الحزب فعلا صواريخ، ولماذا استعجل إطلاق الصاروخ؟ سيدكون بيروت.

نعود إلى السينما لنلتهي من قلقنا، أتجنب أنا وزوجتي الأسئلة مفضلين أن نسألها لبعضيْنا، كل حين أقول لها: كلها يومين ويفتحوا المطار، لن تغامر إسرائيل بقصف بيروت. لا تسألني الآن ماذا شاهدت فلاأكاد أذكر، كان الفيلمان اللذان حضرناهما كوميديين، لكن أكثر ما يضحكني الآن عندما أتذكرهما هو منظر رواد السينما في الفيلم الثاني على وجه الخصوص كلما رن جرس موبايل أحدهم ووجدناه يخرج متعجلا، لينصرف الجميع بعدها للحظات عن مشاهدة الفيلم متطلعين إلى باب السينما ليترقبوا ، هل سيعود متلقي الاتصال، أم لا؟ لعلهم يعرفون منه عند عودته خبرا عما يحدث في الخارج، لم يعد أحدهم لكي نعرف منه، بدأت أتخيل أننا سنخرج من مخبئنا السينمائي تحت الأرض لنجد سيارات الإسعاف تجوب بيروت التي دكت رأسا على عقب، أقول لنفسي: ألن يكون من الأفضل أن نخرج من هنا إلى مسجد لكي نعتكف فيه؟ لعل النهاية إذا جاءت تجيئنا في مكان يكون عونا لي على الأخص في تكفير سيئاتي، لكنني أتذكر أن مساجد بيروت لا تفتح إلا وقت الصلاة فقط، فأسأل الله السلامة لي ولزوجتي وأحاول خداع نفسي والاندماج في الفيلم، دون أن أجيب عن سؤال ملح يتملكني: ما الذي تفكر فيه زوجتي الآن؟

نخرج من السينما في الحادية عشرة مساء، نعود قبل منتصف الليل إلى الفندق وسط الشوارع الخالية المهجورة، نذهب لشراء عشاء من المطعم الوحيد الذي لا زال مفتوحا في رأس بيروت كلها، شاب مصري ساقه حظه العاثر إلى بيروت يسلم عليَّ بعد أن تعرف عليَّ، يقول لي إنه من قراء (الدستور)، ويسألني النصيحة عما يجب أن نفعله الآن، أقول له إنني سأبقى إلى أن يفتحوا المطار بعد يومين، يقول لي إنه لا يعرف ماذا يفعل ولا يجد من يشير عليه، كنت سأشير عليه بأن يذهب إلى السفارة المصرية لكنني خفت من أن أفقد احترامه لي، أطمئنه ويطمئنني ونتبادل التلفونات ونتمنى الخير لبعضينا دون أن نعلم ما الذي سيحدث بعد ساعات.

نتابع آخر الأخبار فنقرأ عن ضرب إسرائيل لثاني طريق بين سورية ولبنان، ضهر البيدر، وكيف تم عزل لبنان الآن برا وبحرا وجوا عن العالم، نحمد الله أننا لم نسلك هذا الطريق الذي مات الأبرياء أثناء قصفه، نترحم عليهم، لكننا أيضا نجد ما يشجعنا على القرار الذي اتخذناه بالبقاء.


آه .. يا الله. يا لها من ليلة عصيبة زادها سوادا مكوثنا أمام التلفاز لكي نتابع التطورات السياسية والعسكرية، ماقاله الكثير من اللبنانيين على الأرض طيلة اليوم عن أن المواقف السعودية والأردنية والمصرية والحديث عن المغامرات والمغامرين كان غطاء سياسيا حقيرا لدعوة إسرائيل لذبح اللبنانيين، لم يكن نبوءة بل كان قراءة صحيحة للأحداث من شعب مسيس تعود على خذلان العرب، كأن إسرائيل كانت تنتظر هذه المواقف لكي تزيد من عربدتها العسكرية. كانت تلك الليلة الأولى في حياتي التي أكره فيها السهر. لم تتمكن زوجتي من مغالبة التعب ونامت. أحسدها دائما على قدرتها على النوم عندما تكون متعبة جدا، أما أنا فعادتي اللعينة بالسهر الدائم حتى الصباح والنوم بعد طلوع النهار جعلتني أكابد بمفردي رعب تلك الليلة الليلاء.

في الثالثة والنصف فجرا اهتزت سماء بيروت بطلعات طيران مخيفة وأخذت أرض بيروت تهتز بشدة، التلفزيونات تضيف إلى رعبي مما أسمعه رعبا مما أشاهده من قصف وحشي يدك الضاحية الجنوبية دكّاً، أفكر في أن أوقظ زوجتي لكي تشاركني رعبي لكنني أخجل من ذلك، فأكتفي بتأملها وأنا أشفق عليها من المصير الذي وجدت نفسها مجبرة على مشاركته معي، أعود للاتصال بمنزل أم جلال في الضاحية الجنوبية لأطمئن عليها أو ربما لأجد من يشاركني عناء ما أنا فيه، لا يرد تلفونها تماما كما كان يحدث طيلة اليومين الماضيين اللذيْن غابت فيهما فزادتني قلقا على قلق، يقولون إنك إذا سمعت صوت الطائرة الحربية فأنت في أمان لأنها تكون قد ابتعدت عنك ولم تعد في مرمى قذائفها، عليك أن تخاف عندما لا تسمع صوتها، تمر الثواني القليلة بين سماع صوت طلعة جوية وأخرى كأنها دهر، لم يعد هناك إلا النطق بالشهادتين وانتظار الموت الذي ينتظره الآن كل من في بيروت بل كل من في لبنان.

أبدأ في كتابة وصيتي لزوجتي فالموت أقرب إلينا جميعا من حبل الوريد، لكنني أتذكر أنها ستموت معي، أستسخف نفسي لكنني أفتح الكمبيوتر الشخصي وأبدأ في كتابة وصية على عجل مقررا أن أسارع بعدها إلى غرفة الإنترنت في الدور الأرضي من الفندق لأرسل الوصية الأخيرة إلى إبراهيم عيسى مقررا أن أروي فيها شهادتي عن ما رأيته، أكتب أول سطر: «أكتب إليكم من بيروت التي شعرت فيها كم أنا ذليل لأنني عربي. أكتب إليكم لأعترف لكم أنني كنت طيلة ما مضى من عمري أزعم أنني أحب فلسطين وأتضامن مع الفلسطينيين، وأنني اكتشفت اليوم أنني كذاب مثلكم تماما، أعيش الآن رعبا يعيشه الفلسطينيون كل ليلة وهم ينتظرون قصف الطائرات يقع عليهم في أي لحظة، ونزعم أننا نحبهم وندعمهم، هل هكذا يعيش الناس في غزة كل ليلة؟ يا الله».

أنهمر في البكاء وأقفل الكمبيوتر وأنا أشاهد الضاحية الجنوبية وهي تتهاوى تحت تأثير قصف الطائرات التي تعبر فوقنا لتضربها، ريما مكتبي المراسلة الشجاعة لقناة (العربية) المتخاذلة المنحازة ضد حزب الله في رأيي تقدم تغطية مفزعة لتلك الليلة اللعينة، يَزِلُّ لسانها فتقول: «بيروت يسودها العهر»، ثم تعتذر قائلة: «بيروت يسودها الرعب». لم تخطئ ريما، بيروت يسودها العهر العربي دون شك. بكيت حتى ابتلت لحيتي، وما من خوف بكيت، بل من ذل وهوان وضعة وضعف، الموت في الغربة شيء مخيف لا شك، لكن من قال إن الوطن معصوم من أن يشهد مثلما نشهده الآن؟ هل سيعصمنا انسحابنا من الوطن العربي كله من مصير كهذا؟ أقول لنفسي: سلم الله مصر من كل سوء، ولكن ماذا عن لبنان وفلسطين؟، الناس الذين يموتون الآن وهم نائمون، ربما هل نموت يوما مثلهم إذا وُضِعنا تحت الاختيار بين حياة المذلة أو الموت بكرامة؟ يدوي صوت انفجار قريب جدا من الفندق، لم يكن قريبا جدا كما فهمنا بعد، لكن أصوات الانفجارات في هدوء الليل صورت لنا ذلك. تصحو زوجتي مفزوعة، تراني غارقا في بكائي، تنظر إليَّ مذهولة، ثم تنظر إلى الشاشة فترى بيروت وهي تحترق، لم أعد أشكو الآن من الوحدة، فقد أصبحنا الآن مواطنين عربيين يتشاركان المهانة والوجع.

لا ندري كيف جاء الصباح، كنا قد أدركنا أنه لابد لنا الآن من أن نغامر ونخرج من بيروت على الفور، إسرائيل لن تتورع عن فعل أي شيء بعد أن وفر لها حكام العرب أجمل غطاء سياسي تتمناه، الأحمق أصلا من كان يراهن على المجتمع الدولي، ونحن ارتكبنا ما يكفي من حماقات، وعلينا أن نتصرف الآن وفورا، لكن علينا في نفس الوقت أن نختار أفضل الطرق البرية ونجمع المعلومات المتاحة عن أكثرها أمانا،أنزل إلى اللوبي لأحاول الحصول على أي معلومات متاحة من أفواه الرعايا الأجانب المسارعين إلى السفر على الطرق البرية، يعتصرني الألم وأنا أرى كل السفارات العربية والأجنبية تبعث بموظفيها إلى الفنادق للاتصال برعاياهم ووضعهم في صورة ما يحدث. لا تسألني عن سفارتي فأنا مصري، تتصل بي موظفة شركة السياحة مشكورة لتقول لي: «بدي إياك تعطيني رد في عشر دقائق.. في سيارة بدها تطلع من طريق شتورة زحلة على سورية»، أقفل التلفون وأصلي أنا وزوجتي صلاة الاستخارة، لم يعد هناك أمل في المطار، ليس أمامنا سوى هذا الطريق الذي لا نعرفه وطريق الشمال، أتصل بالحاج جعفر وسط حصاره في النبطية لأطمئن عليه وأنا أخفي بكل انتهازية رغبتي في حسم قراري بناء على ماسيقوله لي، يصرخ فيَّ: «ليش مافليت.. لازم تمشي حالا..الوضع رايح للأسوأ». أحاول أن أطمئنه بكلام يحاول أن يبدو شجاعا، يزعق فيَّ بشدة: «امشِ حالا من هون.. البلد بده يتحرق»، فأحكي له عرض الموظفة، فيقول لي: «فِلّ فورا.. هذا الطريق بيمر من مناطق مسيحيين ما راح يضربوها.. وطمني فور وصولك.. أنا عمحاول أحكي معك من الصبح»، لم يكن لديَّ وقت لتأمل البعد الطائفي للمعلومة، أخذنا على التلفون معًا نقرأ الشهادتين ثم ودعنا بعضيْنا على أمل اللقاء قريبا مع الأولاد في بوابة فاطمة عندما يعود لبنان ونعود إليه، أتصل بموظفة شركة السياحة لأبلغها بانتظاري للسيارة وأنني موافق على أن أسافر في الطريق الذي اقترحته، لن أنسى أبدا كم كانت مخلصة وسط كل هذا الجنون وحريصة على أن تطمئنني بأكبر قدر من المعلومات عن الطريق والسيارة والسائق دون أن أكلف نفسي حتى عناء سؤالها عن كيف ستقضي هي أصلا لياليها القادمة وسط الدمار القائم والقادم.


ستأتي السيارة في الواحدة ظهرا، ستبدو الساعات الثلاث الباقية طويلة جدا لو ظللت مخنوقا في هذه العلبة، تركت زوجتي لتحضر حقائبنا وترتاح ونزلت لألقي نظرة أخيرة على بيروت التي ربما لن أراها ثانية كما هي، وربما لن أراها ثانية كما أنا. الناس يمشون ذاهلين في شوارع المدينة، يتزاحمون على المجمعات الاستهلاكية والمخابز والصيدليات ودكاكين الجزارة، الكل يشتري بكل ما يقدر عليه، والكل في ذات الوقت يسأل عن مصير ما يشتريه لو انقطعت الكهرباء بعد استهداف محطات الكهرباء بشكل مباشر؛ لكي يموت الناس حرا وعفنا وجوعا قبل أن يموتوا قصفا، لكن الكل يعمل ماعليه ويشتري بما قدر عليه.

أبلغت موظفي استقبال الفندق برغبتي في المغادرة، أقول لهم وهم يحضرون حساب الأيام الثلاثة الماضية: « والله كان نفسي أقعد بس يعني.. ربنا معاكم»، ينظرون إليَّ نظرات تقف على شفا العدائية، أنظر إلى أعينهم الزائغة فلا أدري هل يفكرون الآن في مصير أهاليهم في هذه اللحظات، أم في مصير أهاليهم بعد أن يتدمر موسم السياحة وينهار الاقتصاد.

ألعن عقلية السيناريست التي تفكر دائما فيما هو أبعد من المشهد الحالي، وأشغل نفسي بتصور سيناريوهات الطريق، أرى مدير الحجز الموجود على نفس ديسك الاستقبال وهو يقفل مكالمة تلو الأخرى يتلقى فيها أنباء إلغاء حجوزات تصل حتى شهر أكتوبر المقبل، يتلقى المكالمة ويقفلها ويسب كل شيء قبل أن يتلقى المكالمة التالية، كأن الجميع قـد حكم على لبنان بموت لا حياة بعده.

لا كلام يمكن أن يعبر عن حالة بيروت في يوم كهذا. أنهي إجراءات المغادرة وأترك زوجتي لتستريح قليلا، وأذهب من ورائها لفعل شيء لا يصدقه إلا من يعرف خبلي، شراء الكتب من مكتبتي المفضلة الكائنة على بعد خطوات من الفندق. في طريقي إليها وعلى رأس شارع قريب يتجمع مجموعة من العجائز في محل أحدهم يتذكرون أيام الحرب التي لم يكتب لهم أن يظلوا بعيدا عنها ولو لبعض الوقت. صاحب المكتبة «مكتبة المعري» يجري اتصالا ببعض أقاربه لكي يقوموا بجر سيارة صديق له تعطلت بعد أن فرغت من البنزين، يقفل ليحاول تأمين بنزين له ولصديقه، «ما عندي مشكلة.. تعودت على الحرب لكن طول الليل عم أحاول أجاوب على أسئلة ابني الزغير وهو عميسألني الحرب بين عساكر ليش بيموتونا إحنا؟». هكذا يقول وهو يصف رعب الليلة التي قضاها في الضاحية، ثم يسألني: «ليش ما فليت يا مصري؟ قول لمبارك: يا عيب الشوم.. إذا مصر بتقول هيك على العرب السلام.. الله يرحمه جمال عبد الناصر». لا أحب عبد الناصر كما يحبه صاحب المكتبة الناصري بامتياز، لكنني أومن حقا وصدقا أن جمال عبد الناصر في أسوأ أحواله السياسية لم يكن ليفعل مافعله مبارك. صادفت كثيرين من الذين كانوا ضد حزب الله في اليوم الماضي وقد تغير موقفهم اليوم، يقولون لأنفسهم: «صحيح إنو غلط في التوقيت وهيك.. لكن هلأ خلاص القصة مانها حزب الله.. القصة قصة لبنان.. ليش بتقتل مدنيين وتقصف مستشفيات وجسور وتدمر بلد وترجعه عشرين سنة لورا؟ القصة هلأ قصة لبنان كلياتو».

لم أشعر بفداحة ما شهدته من رعب في ليلة الأمس إلا عندما خرجت من الفندق لأسمع صوت الطائرات تحلق فوق رأسي بشكل مستمر وأكثر إفزاعا. لوهلة انفصلت عما شهدته في اليومين السابقين، ظننت أنني أسير بالقرب من المطار حيث الطائرات المدنية توالي الهبوط، لكنني عندما شاهدت تجمهرا لشباب يرفعون وجوههم إلى السماء تذكرت أنها طائرات إسرائيلية وحاولت أن أمنع نفسي من البكاء. الناس حولي يكسوهم الأسى لكنهم لايبدون مذعورين، تجربتهم الطويلة مع الحرب عصمتهم من الذعر، لكن ماذا عن الأطفال الذين لم يشهدوا زمن الحرب؟

لم أحتمل مشاهدة المزيد، قرأت على بيروت السلام وعدت إلى الفندق وظللت أنا وزوجتي في انتظار السيارة التي ستحملنا عبر طرق جبلية إلى سورية دون أن نعلم أننا كنا على موعد مع مجزرة جديدة في طريق شتورة لم ينجنا منها إلا الله.

صحيح أننا نجونا يومها من الموت، لكن لبنان ونحن نهرب منه كان يموت.

....

نكمل غداً بإذن الله.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.