في الترحال والسفر

في الترحال والسفر

28 يوليو 2019
+ الخط -

في متاهات الحياة التي نعيش، أحاول أن أقف مع الذات، وما كان يُغازلني في الترحال والسفر في سنّ مبكرة للعديد من دول العالم، وهذا الترحال كان أكثر ما يزيدني عزماً وتحدياً بالنسبة للمحيط الذي أعيش فيه، ولم يعجب حيثياته رغبات الأهل والمعارف والأصدقاء، وإن كانوا قلّة. وهم معذورون في الواقع، لأنهم لا يرون في السفر إلاّ الكسب المادي، وهذا حقهم، لأنهم يعيشون في ضيق مادي قاتل، ومنهم من يعيش في بحبوحة وفي نعيم وممن يقيمون في بيوت مترفة ومكتفون مادياً، فضلاً عن واقع الحياة التي يعيشونها ويمارسونها بشوقٍ كبير، وحب يختلف عمّا هم يعيشونه، بل تراهم يعانون أشدّ المعاناة نتيجة دخولهم المادية البسيطة جداً، وهذا ما تراهم يشجعون الراغبين في السفر لكسر طوق الحاجة، وطالما يقدمون لهم النصح في حال رغبوا في السفر إلى بلد ما، وخوفاً من أن يدفعوا بما لديهم من مبالغ مدّخرة في اتجاه آخر، وهدر ساعات وساعات في عمل شاق لجهة تحصيلها، ومن غير الممكن صرفها، هكذا وبسهولة، لأجل قضاء أيام في السياحة بدون هدف، وهذا الشيء ما لا يعجبهم بتاتاً، لأن إمكاناتهم المادية بالكاد تسد رمق أسرهم لأيام، بسبب تهافت الناس في بحثهم المستمر والدائم، ولهذا تراهم مندهشين في حال تحدث أحدهم عن السفر ورغب فيه، فهذا يلزمه حظ أوفر في الكسب المادي الأهم بالنسبة للأغلبية منهم، حيث تنكمش الحياة، وتقف عجلتها إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير.

إنَّ البرنامج المعد للسفر، وإن كان لغرض بسيط، لأنه يتطلب الوقت في ذلك، وهذا ما يراه آخرون على أنه يسهم في اكتساب المعرفة، بعيداً عن أيّ هدف مادي، الذي يتسابق إليه الكثيرون، وهذا ما يعني خلق حياة جديدة مترفة، يتطلع مؤسسوها إلى نتيجة ايجابية، فيها الكثير من علامات التحدّي، وسيكون النجاح حليفهم بلا شك. هذه الصورة رسمت واقع حال المترفين من غيرهم، المولعين والمحبين للسفر لأجل السفر.. وطبيعي أنّه يُسعد من اهتم به وإلى حد كبير.
هذه المقدمة تسوقني إلى أن أقف عند بعض الأصدقاء الذين ألتقيهم بصورة يومية في الشارع، في العمل الوظيفي، في جلسة حوارية، وفي بيت صديق. في المقهى، وغير ذلك، وهذا ما يؤطر إلى أن الحديث يحتاج إلى هدوء تام، وأي هدوء.


ومن بين الصور الكثيرة، التي كما ذكرت، استوقفتني في حياتي أنّني طالما التقيت بأصدقاء لهم خبرتهم الواسعة في الترحال، ومنذ الصغر ودفعهم لذلك، بالتأكيد، الحاجة وهذه من أهم الشروط التي يسعى إليها المسافرون. التحصيل المالي يظل بلا شك يشكل غطاءً مهمّاً للمسافرين الباحثين عن الرزق. وهذا الصديق كنت أعرفه ومنذ اليفاع، من الباحثين عن السفر، وبجدية، ليس بهدف المال وإنما كان تصوره يختلف جذرياً عن الكثيرين ممن نلتقيهم، ولم نكن نأخذ حديثه على محمل الجد، وبعد قضاء سنوات وسنوات عرفنا بعدها أن ما تحدث به، ونقله لي كان نابعاً عن قناعة، وقناعة تامة، وكانت رؤيته صحيحة مئة في المئة.
صديقي فيصل، رافقنا في طفولة خشنة، وان كان مرتاحاً مادياً، وميسّراً له كل شيء، وهو الشاب الوحيد لوالديه، وكان مثالاً في التميّز في كل شيء.
إنسان شهم، واعٍ إلى حد كبير. كان يعاملنا، نحن أصدقاءه، بحب كبير... وان كان يمارس علينا الأستذة بكل صورها، إلاّ أنه وبصراحة، يستحق أن يكون كذلك لأنه يفهم الدنيا غير ما كنا نعيها، نحن أصدقاءه... وكان بيته أشبه بمضافة للكثير من الشباب الذي يركنون إليه، ويحترمون تصرفاته، ويستمعون إلى نصائحه، وإلى حديثه المشوّق، ولقاءاتنا اليومية المتكرّرة في بيته الذي يدعو إليه جميع الأصدقاء، ومن مختلف شرائح المجتمع، فكان يقدم لنا ما لذّ وطاب من المأكل، والمشروبات الساخنة، ويحتفي بنا احتفاءً غير عادي لأجل اجتماع يضمّنا مع بعضنا بعضا، وهدفه من كل ذلك، هو أن نقدّر مساعيه في علاقته معنا، وهو كذلك، أضف إلى أن والدته، رحمها الله، كانت ترحّب بضيوف ابنها، وتقوم على خدمتهم وتهتمّ بهم، وتقدرهم تقديراً عالياً لا بعده ولا قبله.
وفي يوم، فكر فيصل في السفر إلى اليونان، وهذا ما كان يحلم به منذ الصغر، وبعد جهد ومتابعة حطّت قدماه في إحدى الجزر اليونانية، وأقام فيها لأكثر من عامين، وخلال تلك الفترة التي أقامها هناك، كنا نتبادل وإياه الرسائل البريدية، وكنت في حينها أؤدي خدمة العلم، وأفرح برسائله التي أحتفظ بها بدوري، بعد الانتهاء من قراءتها، فإنّي أقوم بالرد عليها، وكنت أسأله السؤال ذاته، وفي كافة الرسائل التي كان يبعث بها عن ساعات العمل التي يشغلها، والرقم المالي الذي يحصّله من كل ذلك؟


وكنت ألحّ عليه بالإجابة، وهو يرفض الرد على سؤالي مفضلاً الذهاب في اتجاه آخر وعدم الخوض في هذا الموضوع، وكان يؤكد عليَّ بأن هناك أموراً أهم من المادة. السفر يفتح آفاقاً جديدة في الحياة، والمال بالنسبة للمسافر يظل شيئاً ثانوياً بالنسبة له، ولم أجد أي إجابة شافية منه!
وظللت على هذه الحالة طيلة فترة غيابه، وإلحاحي عليه لم ينقطع، وبعد أن غادر اليونان ووصل مدينته التقيته في بيته المتواضع، وكررت السؤال ذاته، وكان يكره إلى حد ما أيّ سؤال يطرح بهذا الاتجاه، لأن المال بالنسبة له لا يعني شيئاً، ولم يفكر به يوماً. السفر والترحال والغياب عن الأهل والأصدقاء هذا يعني أنه يخلق منك إنساناً آخراً يطفو إلى عالم جديد، هذا ما كان يشير إليه، ويفضله على كثير من الأشياء.
وما حدثني عنه صديق الطفولة فيصل وصل أخيراً إلى الإجابة الشافية التي كان يدركها قبل سنوات، وسألني عنها غيره في المقابل، عن ماهية الفائدة المادية التي استفاد منها، بعد كل هذا الركض والبعد عن الأهل والأحبّة؟
في الواقع الاستفادة من السفر تفتح آفاقاً لا يمكن أن يدركها إلاّ المسافر نفسه، وهي تختلف من شخص إلى آخر.
ويمكن أن أضيف أنه سبق لي أن سافرت إلى العديد من الدول، عربية وأوروبية، بقصد السياحة والعمل. وإن كان الهدف من السفر، في بداية مرحلة الشباب، حب الرغبة والاطلاع، وتصوير حكايات المدن وحال أهلها، ومعيشتهم، إلاّ أنّها ظلّت هامشية، ويلزمها الوقت والمال! ولم يكن السفر بالنسبة لي يوماً الاكتساب، وجمع المال، بقدر ما هو رغبة ومعرفة واطلاع!
فالرغبة، بحد ذاتها لها مفهومها لدى كل واحد منا، والمعرفة أيضاً، تصبّ في قالب معرفي، وهو الاطلاع على ثقافات العالم الآخر، وكيف يعيش سكانه. وهذه المقاييس ليست بالطبع وحدها كافية؟
فالسفر له مفاتيحه وإيجابياته، وإن كانت سلبياته كثيرة، وإيجابياته كذلك، ويمكن أن تدفع بك إلى أن تعيش في ذاك العالم العاجي.
فالسفر هو مدرسة الحياة. نعم، هو الحياة بعينها على الرغم من الصعاب الكثيرة، وهواجسه وسلبياته التي ما تنفكّ تطرح مزيداً من التساؤلات، ما يدفع بنا إلى أن ندير ظهرنا إلى هذه الجزئية في الاطلاع والمعرفة، والوقوف على حاجات الناس. ثقافاتهم، عاداتهم، تقاليدهم، معتقداتهم، لغاتهم، وطبائعهم.
فالحاجة، تدفع بك أيضاً إلى اتخاذ السفر مفتاحاً حتى يتمّ تأسيس قاعدة عريضة قوامها المعرفة، والاستزادة من مخبأة الآخرين.
فالدروس التي تعلّمناها، وما زلنا نتعلمها، وتضيف إلى معرفتنا جديداً، فيها الكثير من الحكمة، وحب الآخر، وفتحت أمامنا طريقاً سالكة، والدخول في قلوب الناس، ومعرفة أسرارهم، وحسن نواياهم من خبثها، ورؤيتهم إلى عالم يغلب عليه طابع الحب والتفاني بدلاً من الاقتتال والتجنّي!
ويظل للسفر تجلياته الغريبة، وتعريف بالناس وبثقافاتهم، فضلاً عن أنه يدفع بك إلى أن تشكل حالة غريبة بينك وبين نفسك، كما أنه يوسّع مدارك الشخص ويعلّمه معنى الحياة، وكيفية التعامل مع الناس، وما يحمله من صور غرائبية عجيبة.
طبيعي، هذا الحديث لا ينطبق على كل المسافرين، فبعضهم، وإن استمروا في السفر وجابوا العالم، ودفعوا الغالي والنفيس لقاء ذلك، إلاّ أنهم، وللأسف، اقتصرت رؤيتهم إلى منحى بعينه، ولم يدركوا شيئاً في هذه الحياة، أو يتعلموا الدروس المراد معرفتها لقاء ذلك، ما انعكس على حياتهم المعيشية وتحولوا إلى ألدّ الأعداء لشخصهم ولكل من عرفهم!
الصور كثيرة وكثيرة جداً، ولا يمكن أن تقاس على شخص بعينه. ويظل السفر حالة تنوّع غرائزي غريب، وفيه الكثير من الزاد والمعرفة بحيث يعكس الصورة الايجابية على الأشخاص، في حال استغلالهم ذلك، وعرفوا كيف يمكن لهم أن يعيشوا الحياة بسوية، بعيداً عن الهدف المادي الكبير أو الإضرار بالناس وإيذائهم!

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.