لن ننسى يا حلب!

لن ننسى يا حلب!

12 يوليو 2019
+ الخط -
حتى أقاصي غابات الجنوب الأفريقي، سمعت صرخات حلب وفجائع الثكالى فيها، ذبح الرضيع واعتقل الفتي، البيوت مدمرة منهوبة مغتصبة، سلبت منّا الأرض حرقت بصمة أجدادنا،
قد هانت جراحنا على الشعوب قبل الأسياد، حينما أطرقوا أنظارهم بعيداً عن القضية، إننا أبناء هذه الأرض كما لنا الحق فيها، لها علينا حق نوفيها إيّاه حتى آخر رمق، خسئت روسيا وكل القوى المشاركة في إراقة دمائنا، وخسئ كلّ المتخاذلين المتفرجين وأولهم العرب، وخسئت أنا حينما تضامنت مع أساطير الأولين بداية من فلسطين مروراً بلبنان، العراق، الشيشان وضحايا هيروشيما وحتى ستالين غراد، حينما قرأت للمرة الأولى عن ملحمة "الكرامة ستالينغراد" التي وقعت بين عامي 1942 و1943، تلك الملحمة التاريخية التي بذل أهل أرضها جلّ ما أمكنهم بتصورهم الحق، أنّ حياتهم تكمن بتخليصها من الشرور وإحيائها على أسس العدالة. كانت مجرد قصة يرويها المخضرمون الذين عاصروا أحداثها أساطير جميلة ضمن جلسات السينما المشوّقة، ذاك الألم يجتاح نبرة أصواتهم، يظهر في أحداقهم، ويبعث لهم بأشباح صور، من سفك الدماء ودوي الطائرات في السماء وأصوات المعتدين على حماهم، "ستالينغراد" انتهت ذكراها وما تنتهي الذكرى يوماً إلا ببديل يملأ عنها المكان والذكر، ومن عرف ستالينغراد لن يخطر له ولو لبرهة أنّ ذاك الشعب الذي ناضل لأجل الأرض، يغزو حديثاً أرضاً بمثل الذي تعرض له من وحشية وأشد، من ملحمة غراد إلى ملحمة الشهباء..
طلاب الكرامة أمس يقتلون طلابها في حاضرنا، ضحايا تلك الأسطورة من بكينا لأجلهم وتمنينا لو كنا في زمانهم لنقف إلى جانبهم ضد الغزو النازي بات لديهم إشباع كرامة فأشعلوا "قيامة حلب" واغتالوا إنسانية شعب حر ثائر.

ما الذي حدث في حلب؟!
قتل وسفك وسيول من الدماء، أشلاء تتطاير وتُربٌ لجأت إليها الأجساد، صار الموت متسكعاً يغلب في لحظ ما لا يقل عن عشر أرواح، الهلع الذي يجتاح حلب حمل الكثيرين على الهروب خشية شظايا تتطاير ونيران تتهافت لا تميز بين بشر ولا حجر ولا نبات، كزلازل تطحن براكين ترمى من سماء سوفييتية ناقمة!

مما يقارب 5 ملايين نفس، تنحدر في بضع سنين لما يقارب 2 مليون نفس، هؤلاء الذين ثبتوا على العيش في أرضهم رغم جوعهم وجراحهم، آثروا الحياة فيما بينهم، من طبيب يسعى لمداواة العيان، ومعلم غايته جيل بنيانه ثائر وكيانه العدالة، وعلى الثغور مقاتلون يبذلون أنفسهم فداء لأرضهم، أحزاب أجنبية عن البلاد وأسراب من الطائرات الروسية المحملة بشتى أنواع القاذفات الروسية الأكثر تقدماً تقنياً والأكثر سقاطةً كرامةً، وتسمى بحسب قوات حلف الناتو بـ "فولباك"، قد أبدعت روسيا والنظام الأسدي الفاشي في استخدامها، إذ إن قوات نظام الأسد تمتلك الطائرة "سوخوي 25"، إلا أن روسيا أدخلت على هذه الطائرة التعديل والتطوير، حتى تستطيع خوض المعارك ليلاً، وهو ما تفتقده مقاتلات النظام، وتمتلك روسيا مجموعة من السفن الحربية في المتوسط، بعضها مزود بصواريخ "أرض جو" لضرب الأهداف بعيدة المدى، بحسب قول وزارة الدفاع الروسية، والكثير من التعاون على مستوى عالٍ بين النظام السوري وروسيا، إذ أن عدوهم يعدّ من القوى العظمى ألا وهي الشعوب إن ثارت!


تكتفي الدول ذات النفوذ كأميركا وغيرها بالمراقبة وتقديم تقارير بأساليب الإجرام الروسي والأحزاب الحليفة للنظام، إلا أنّ الثائرين حرصاً على أرضهم ومبادئهم لا يريبهم شيء، تراهم عشاقاً هائمين بالحرية المغمسة بالدماء شوقاً لحياة حرّة كريمة، لا فوارق تذكر بين قيامة حلب ومحرقة ستالينغراد. فقد كانت معركة ستالينغراد واحدة من أشرس معارك الحرب العالمية الثانية، إذ كانت بداية لسحق تواجد القوات الهتلرية الغازية وسبباً في نهوض الدولة العظمى في حاضرنا، استطاعت خلالها القوات الألمانية النازية وحلفاؤها السيطرة على كامل المدينة تقريباً، بعد مقاومة شرسة من جانب قوات الجيش الأحمر السوفييتي الذي صمد رغم انتهاج النازيين سياسة الأرض المحروقة، إذْ لم يبق أي شيء على هذه المدينة إلا وسحقه الألمان بطائراتهم وأسلحتهم الممنوعة. ولم يتبق فيها سوى مشاهد النيران وأصوات تبادل العيارات النارية بين الطرفين، مما انعكس سلباً على سياسة النازيين العسكرية، ودفعه لخوض "حرب البرق" الذي يعتمد بصفة كبيرة على سلاح الدبابات والهجومات السريعة الخاطفة، ليجد نفسه غارقا في حرب مدن من بيت لبيت ومن شارع لشارع، وكانت "ستالينغراد" أكثرها قسوة ونهماً من قبل العداة الألمان كحال "قيامة" حلب المُستهدفة من قبل الروس، ويعود الأمر في ذلك لأهميتهما الاستراتيجية. الضواحي الجنوبية لروسيا جعل منها أهلها قلعة محاطة بالفولاذ بجبروت سكانها الصامدين، فقد تسبب طبيعة المناخ في إنهاك الجنود الألمان، وتعطلت الآليات والمدرعات لقلة الوقود، إضافة إلى نقص الذخيرة، في وقت اشتدت الهجمات السوفييتية التي تسعى لسحق وجود النازيين. وقد أعانتهم على النصر طبيعة المناخ ومعرفتهم المتينة بالمنطقة، هذا ما حصل في حلب حيث وقع معظم المقاتلين الأجانب أسرى وألحق بهم أبناء الأرض، أبناء حلب "الثائرين" هزائم، علماً أنهم لا يملكون سوى عتاد أولي، ويعانون من نقص في المدرعات ومضادات الطيران "الطيران الستالينغرادي"، الذي أنسى سكان الشهباء لون سماء مدينتهم. وقد بخل عليهم المجتمع الدولي ومن يدعون نصرة الشعوب ورعاة الحريات وحقوق الإنسان بمضادات الطيران التي تكفيهم بأسها، فشراسة المعركة في حلب تفوق معركة ستالينغراد حيث كان الشعب والعدو يستخدمان الطيران ومتقاربين بعدد المقاتلين تنظيماً، لا على سجية حلب التي تآمرت عليها جيوش ومقاتلات أربع دول على مدينة نصفها باحث عن حرية في أزقة العالم والباقون يتناوبون والموت دانٍ. وإن قارنا بين حالها وحالنا، نقرأ بأهداب أجفان مؤرّقة عن مدينة أُبيدت لكنها حققت النصر، فيتهيأ لي أن أراها كضحية تنال حقها، في أن تثور على الظلم والطغيان، لا أن تُسخّر قوتها لتلتهم ضحية بين فكيها، كلتاهما حلب وستالينغراد كالرتق إذا فتقته متماثلتين في معاناتهما وما لاقتاه من شرور الحرب بقتل الإنسان وتدمير البنى التحتية، والأجدر بصمود وجسارة شعبيهما.

أسطورة "ستالينغراد" تتلاشى أمام ثورتنا، "فلا أحسنت الجزاء ولا رددت الحرية"، اعتديتم وبهمجية، وبكل ما تحمله الأنا في تعاملكم أيها الروس المتطرفون قتلاً بحقنا: قد ذقتم مرّ العذاب؟! فكيف لبشر أن يحبذ شيئاً لنفسه، ويعمل على حجبه عن غيره. لقد كان نهم النازيين وإصرارهم على سلبكم أرضاً، لا يساوي بؤرة أمام همجية وقذارة سياستكم في الحرب ودأبكم لتسلبونا إياها، ما زلتم بحاجة للكرامة، يا "غراد" ما كنتي لتذيقي غيرك ما احتسيته، وتعمدي لحرق الوجود ومحاربة المؤمنين بحق الأرض على رعاتها وبحقهم منها، متجاهلة تضرج الدماء في محرقتكم، رغم أنكم توّجتم لتاريخها عيداً، فأيّ عيد ينتظرك يا شهباء، أنت الأشد في المحن وأنت الكرامة الحقيقية التي نراها، قسماً لم ولن ننسى.