على هامش الصيام (2)

08 مايو 2019
+ الخط -
أنت الآن في حالة تغيير، تغيير عادات يومية تواظب عليها خلال 335 يومًا في السنة، تتناول وجبة الإفطار أو فنجان القهوة أو سيجارة الصباح، وتتنازل عن كل ذلك امتثالاً لأمر الشارع الحكيم، وقد تشعر بتغيُّر مزاجي أحيانًا؛ فتصبح عصبيًا وربما شرسًا!

ويأتي ارتفاع الحرارة ليضيف إلى العصبية مزيدًا من المسوغات؛ فيتحول المرء سريعًا إلى بركانٍ من الغضب يفوق بركان ميرابي (ومعناه جبل النار)، أو يدمر من حوله بما يفوق إعصار "فاني"! ولم يشرع الصيام لنغضب أو نتحول على من حولنا ونتنمر عليهم بأي حال؛ فالحكمة من الصيام تحقيق التقوى، وشتان بين مراد التقوى وعواقب الغضب.

الغضب صدأ العقل؛ فإن خروج المرء عن طوره يدفعه لارتكاب الحماقات، ويحيد به عن سبيل المكرمات، ومن ثم ينحرف عن إطار التقوى. كثيرًا ما يردد أستاذنا عبد القادر عياض في الدورات التدريبية مقولة جميلة، إذ يقول "اضبطوا مصطلحاتكم؛ تستقِم حياتكم"، وفي حديثنا عن الغضب، ثمة مصطلحات يتعين علينا التمييز بينها؛ فالغضب والسخط والغيظ والاشتياط في كفة، وفي الأخرى نقائضها من الرضا والطرب والحلم.


الغضب نقيض الرضا، ومنه الغضب المذموم وعليه مدار حديثنا الآن، والغضب المحمود ويكون لله لا للنفس، وقد كان خير الخلق حليمًا لا يغضب إلا إذا انتهكت محارم الله. ويختلف الغضب عن السخط في أن الغضب يكون من المدير على موظفيه، ومن الموظف على مديره، بينما السخط يكون من المدير أو الكبير دون الصغير، والغضب اشتداد السخط.

الفرق بين الغيظ والغضب أن المرء قد يغتاظ من نفسه، لكنه لا يغضب عليها؛ فالغضب يتطلب تحقيق عقوبة لتخفيف الغضب أو التنفيس، ولا يعمد عاقل لإضرار نفسه بحال. يصحب الاشتياط الغضب ويقال هو سرعة الغضب، وكلما زادت حدة اشتياط المرء عند غضبه، ارتفعت احتمالات نزقه وندمه.

لك أن تتخيل رجلًا يصوم لله، وينقطع عن الطعام والشراب وسائر المحرمات، ثم تنفلت أعصابه فجأة فيثور ويغضب، وربما لا يستدعي الموقف هذا الانفعال المبالغ فيه، وبعد أن تهدأ ثائرته يقول بطرف مكسور: "اعذرني! إني صائم"، ولم تدبر الحكمة من الصيام لما سيطر عليه الغضب.

كانت النصيحة المحمدية للصحابي "لا تغضب"؛ فالغضب رأس الحماقة ورسول الشر، وبه يفقد المرء مكانته في القلوب، بل ويُتهم في عقله إن استبد به الغضب، وفي ذلك يقول أبو حاتم: "سرعة الغضب أنكى في العاقل من النار في يَبَسِ العوسج؛ لأن من غضب زايله عقله؛ فقال ما سولت له نفسه، وعمِل ما شانه وأرداه". وعند الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري: (الغضبُ جمرةٌ في قلب ابن آدم، أما رأيتم إلى حُمرة عينيه وانتفاخ أوداجه..).

استفد من صيامك ولا تفسده بالغضب، واعلم أنك تصوم لتضبط جوارحك، واستسلامك للغضب ليس من العقل أو الحكمة في شيء، ولذلك ترى أهل العلم والحكمة والسداد ينصحونك أن تبتعد عن الغضب، وكفى بالغضب إثمًا أنه قرين الجهل والطيش ونقيض الحلم والعلم والأناة.

يقول عمر بن عبد العزيز: "قد أفلح من عُصِم من الهوى والغضب والطمع"، ويؤكد أبو حاتم أنَّ "أسرع الناس جوابًا من لم يغضب"، وقيل لابن المبارك: اجمع لنا حُسن الخلق في كلمة؛ فقال: (تركُ الغضب).

قد تستفزك بعض الأمور، وهذا أمر طبيعي، لكن تبقى طريقتك في التعامل مع الغضب هي المحك؛ فالبعض يغرق في غضبه حتى أذنيه، والبعض يدرك أن الحلم علاج الغضب؛ فجرِّب الحلم ولن تندم، وإن لم تكن حليمًا فتحالم، وإن لم تكن صبورًا فتصبَّر، ورحم الله يزيد بن أبي حبيب القائل: "إنما كان غضبي في نعلي؛ فإذا سمعت ما أكره أخذتها ومضيت".

الهامش الثاني: تغافل واحلم وسيطر على غضبك، ولا تترك نفسك نهبة لنيران الغضب والغيظ والسخط،؛ فكل غضوب مملول وكل حليم مقرب إلى النفوس.
دلالات