صوتي المفترى عليه الذي احترمته الثورة

صوتي المفترى عليه الذي احترمته الثورة

21 ابريل 2019
+ الخط -
قبل ثورة 25 يناير التي اندلعت قبل أكثر من 8 سنوات في مصر كنت أنظر باستخفاف شديد وسخرية للانتخابات بكل أنواعها، سواء كانت رئاسية أم برلمانية أو حتى انتخابات محلية، كنت أتعامل مع كل الانتخابات الرئاسية على أنها مسرحية سمجة، نتائجها معروفة مقدماً، انتخابات مزورة قبل أن تنطلق، أو على الأقل انتخابات أقرب إلى الاستفتاء حيث يتنافس عليها شخص واحد، هو رئيس الجمهورية، ومعه مجموعة من المرشحين "السنيدة" من رؤساء الأحزاب الكرتونية، أو من قياديي أحزاب المعارضة التي كانت تُموَّل من مجلس الشورى التابع للدولة، وتدار معظمها من مكتب صفوت الشريف باتحاد الإذاعة والتلفزيون، حين كان يشغل منصب وزير الإعلام.

وعلى مدى نحو نصف قرن كان هذا هو الانطباع السائد عندي والذي كان يزداد يوماً بعد يوم، ولذا كنت أرى أن الذهاب إلى لجنة انتخابية هو نوع من ضياع الوقت والجهد، بل العبث والسخرية من النفس، لأن النتيجة معروفة مسبقاً وهي حصول الرئيس المنتخب على أرقام تقع في خانة الأربع تسعات "99.99%"، أو في أحسن الأحوال تكون النتيجة فوق 90%.

هذا الانطباع جاءني من تجربة شخصية مررت بها حين كنت في الجامعة، ففي أحد الانتخابات الرئاسية قررت أن أدلي بصوتي وألا أقاطع كما جرى في الانتخابات الماضية، خاصة أنني كنت ساعتها نشطاً في اتحاد طلاب جامعة القاهرة، ورئيسا للجنة الاجتماعية باتحاد طلاب كلية الإعلام.

صبيحة يوم الانتخابات ذهبت إلى اللجنة الواقعة بالقرية التي كنت أقيم فيها، مددت بطاقتي الشخصية للموظف الجالس، فلم يكن في حيازتي بطاقة انتخابية ولم أستخرجها من قبل، فتح الموظف الكشف الانتخابي فوجد علامة زرقاء أمام اسمي، وهي تعني أنني أدليت بصوتي من قبل، تعجبت، لاحظ الموظف علامات التعجب وقد كست وجهي، سألني إن كنت قد أدليت بصوتي هذا الصباح، فأقسمت له أن هذا لم يحدث، وأن هذه هي أول مرة أدخل فيها مقراً انتخابياً، فقال له موظف يجلس بجواره وهو يسحب نفسا من السيجارة التي يمسكها بيده اليسرى: "لا توجد مشكلة، دعه يصوت أمام أي اسم آخر، أو بدلا من أي شخص لا يوجد توقيع أمام اسمه".


صعقت من الإجابة، ورفضت المشاركة في مسرحية التزوير وأن أوقع بدلاً من ناخب آخر، وذهبت غاضباً من دون أن أجد قاضيا أشكو له هذه المهزلة، فكرت أن أذهب إلى قسم الشرطة لتحرير محضر بالواقعة، فنصحني الجميع بألا أفعل حتى لا أجلب لنفسي المتاعب. هنا أدركت أن صوتي تم تزويره في الصباح الباكر، وأن شخصا ما قام بالتصويت نيابة عن معظم الناخبين وقام بتسويد الأصوات.

بعدها قررت ألا أشارك في أي انتخابات بعدها، سواء كانت رئاسية أم نيابية أو حتى محلية، فالانتخابات يتم تزويرها "عيني عينك" لمصلحة الحزب الحاكم، وهو الحزب الوطني الديموقراطي حينئذ، وأن كل ما يحدث ما هو إلا تمثيلية كبيرة ليس المقصود منها تنظيم انتخابات حرة، فالداخل يعرف كل شيء، بل المقصود منها هو الخارج، حتى يقال علينا إن مصر دولة ديموقراطية، وأن المصريين يختارون بحرية ممثليهم، سواء في مقر الرئاسة أو في مجلس الشعب أو في البلديات، وأن الحزب الذي يحكم البلاد منذ تأسيسه أيام السادات هو اسم على مسمى.

ولذا لم أستخرج طوال حياتي بطاقة انتخابية، ولم أنتمِ لأي حزب سياسي أو جماعة، ولم أؤمن بأي عمل سياسي، لأن الحياة السياسية في فترة ما قبل ثورة 25 يناير كانت عبارة عن تمثيلية يتم فيها أحيانا ترك هامش حرية لأحزاب وجماعات وقوى سياسية لها وجود قوي في الشارع.

بل إنه في بعض الأحيان عندما كنت أكلف من قبل الجهة الصحافية التي أعمل لديها بتغطية جلسات المؤتمر السنوي للحزب الوطني كان النعاس يسيطر عليّ طوال الجلسات وأستيقظ على أصوات "الهتّيفة" والمنافقين عندما يقاطعون كلمة الرئيس بالهتاف المعروف "بالروح بالدم نفديك يا ريس"، وفي وقت لاحق الهتاف لنجله جمال الوريث المحتمل.

واستمر هذا الموقف إلى أن قامت ثورة 25 يناير 2011، هنا أدركت أن الثورة أعادت الاعتبار لصوتي وصوت كل المصريين، وأن صوتي المفترى عليه بات له ثمن، بعدها حرصت على الإدلاء بصوتي في كل الانتخابات والاستفتاءات على الدستور وقبلها تعديلاته التي جرت أيام حكم المجلس العسكري في مارس/ آذار 2011، بل وشجعت من حولي على فعل ذلك متهماً المتقاعسين بالسلبية، قائلاً إن عصراً جديداً قد بدأ، وأننا يجب أن نشارك في صناعته واختيار من يمثلنا، حتى ولو في الانتخابات المحلية.

وحدث ما حدث في 3 يوليو/ تموز 2013 حيث تمت سرقة أصوات ملايين المصريين في غمضة عين وبقوة السلاح، وعادت ريما لعادتها القديمة، وعدت منضما إلى حزب الكنبة، وهو أكبر حزب في مصر مقاطعا الانتخابات بعد أن أدركت، كما غيري، أن عصر الحاكم المرشح الأوحد قد عاد، وأن صوتي ليس له أهمية له عند منظمي الانتخابات، أقصد الاستفتاءات، وأن عصر الـ 99.9% قد عاد ببشاعة، وأن الحال في مصر لا يختلف كثيرا عن الحال في سورية بشار الأسد، وربما أسوأ من عصور معمر القذافي ومبارك وصدام حسين وحافظ الأسد وعلي عبد الله صالح وزين العابدين بن علي وغيره من الحكام المستبدين أو هؤلاء الذين أطاحتهم الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي.
مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، مسؤول قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".