كاف التشبيه

كاف التشبيه

18 ابريل 2019
+ الخط -
في سكرة النوم، رأيتني أجلس في مقهى ريش، وإلى جواري أستاذنا يحيى حقي، ورابه مني شخوص بصري وطول إطراقي؛ فضرب بعصاه الأرض ثلاث مرات، ثم فركها بين راحتيه وقال: فيم الفكر يا ولدي؟

رفعت رأسي وطالعت إشراقة بسمته، وقلت: رأيت الليلة ما ضاق به صدري؛ فتنهد - وهو يجاريني - وأرسل تنهيدة طويلة حارّة، وشاركني العجب قائلًا: ومن لا يضيق صدره بما وقع؟ كانت لي ذكريات جميلة فيها، وهناك عرفت زوجتي الثانية بعد وفاة والدة نهى، وقد آلمني هذا الحادث المؤسف.

قاطعته مبهوتًا: أي حادث؟ فأجابني محتدًّا متهكمًا: أما سمعت أمس بحريق كاتدرائية نوتردام؟! لقد أتى الحريق على أجزاء هائلة من الكاتدرائية فدمرها تدميرًا؛ فما سبب ذهولك إذًا؟ وتكهرب جوّ الحديث؛ فاعتذرت منه وقلت ملطفًا: أبشرك! لقد سيطروا على الحريق، واقترح ترامب استعمال طائرات لاحتواء الحريق والسيطرة عليه، كما أبرق الرؤساء والوزراء العرب للعزيز ماكرون يشاطرونه الأحزان.

أرسل حقي ربع ضحكة، وأشار بيده إشارة ذات مغزى وهو يقول: استيقظوا من سباتهم؟ أين كانوا من مجزرة مسجد النور؟ نهايته يا ولدي! ما سبب شرودك إن لم يكن الحزن على حرق الكاتدرائية التاريخية؟ أجبت وأنا أتحاشى النظر إليه: كنت أقرأ الليلة كتابًا؛ فبعث في نفسي ضيقًا وغصّة، أتتصور ذلك؟ هدأني وقال: لا، لا تبالغ! ما السبب الذي يورثك الضيق والغصّة من كتاب؟ وقبلها ما هذا الكتاب؟ قلت: كتاب "أحاديث القرية" للأديب اللبناني مارون عبود، والسبب "كاف التشبيه"!


تغضّن وجه الرجل فجأة، ومال برأسه على صدره يستقبل الأرض، وظل يحرك رأسه يمنة ويسرة، وأشفقت عليه من شدة تأثره فتوقفت عن الكلام؛ فأوعز إليَّ أن أمضي في حديثي، فقلت: تخيل يا أستاذنا! أتخم الكتاب بكاف التشبيه وأخواتها من كأن وكأنما وكاد، حتى إنه في 174 صفحة يذكر 89 كاف تشبيه، ونصفها كأن وكأنما، وبعدها تأتي كاد ومثل؛ تالله لقد كادتني كاف التشبيه تلك!

فيما يجلس على كرسيّه، أمسك عصاه بكلتا يديه وقد تربعت يمناه على يسراه، وثبت ذقنه فوقهما وحدجني بنظرة طويلة، وابتلع ريقه قبل أن يأذن للسانه بالجري؛ فقال بصوت مترنح: بُحّ صوتي وقلمي وأنا أعالج هذه الآفة في أدبنا العربي، لم ينعتق أدباؤنا من مرض التشبيه، وأرسلت عتابًا شديد اللهجة لابن المعتز؛ فقد سنّ في الأدب سنّة قبيحة، وأغرى من بعده باستباحة عرض الأدب بالتشبيهات، كان ابن المعتز صاحب تشبيهات بديعة، لكن من بعده أساؤوا إليه وإلى البلاغة عامة والتشبيه خاصّة، وقد عبثوا به عبثًا شديدًا.

وكنت - والحديث ليحيى حقي - قد نصحت شباب الكتاب في "أنشودة للبساطة" بالبعد عن التشبيه والتمثيل، وفي فصل عنوانه (من غير تشبيه ولا تمثيل) قلت حرفيًا: ".. وأعترف، وأنا مكسوف، أنني لا أجد في أدب أمة أخرى ما أجده في تراثنا الشعري، من هذا الحشد الضخم من التشبيهات الممجوجة".

وفهمت أنه يحسد الشباب الذين لم يطالعوا الأدب العربي القديم، وجحظت عيناي حين نطقها، لكنه تعلل بأن "الجهل بهذا الحشد الضخم من التشبيهات هو من حسن حظهم"، وأردف حقي: "لقد تخففوا من ألفاظ كانت ستبهظ كواهلهم، ومن لزوجة كانت ستخدر حاسّة اللمس في يدهم، نجوا من زيف كثير كان سيهدد قدرتهم على رؤية العالم الجديد، على الصدق، على الابتكار".
وعن التشبيه في البلاغة العربية، يقول ابن الأثير في المثل السائر: "إنه من بين أنواع علم البيان مستوعر المذهب، ومقتلٌ من مقاتل البلاغة". لكن لم يطلب منا أساتذة اللغة في المدارس أن نتوقى هذا الغث البارد، بل صبّوا في آذاننا كثيرًا منه؛ فقد كنا نترنح من فرط الطرب، وتكاد أعصابنا تتمزق من شدة الطرب حين يكون التشبيه في عالم المرئيات من صنع بشار أو صاحب المعرة. ثم نهض يحيى حقي وقد أغمّته كثرة التشبيهات فوق ما أغمّه حريق كاتدرائية نوتردام.

دلالات