جاسيندا أرديرن تمثلني

جاسيندا أرديرن تمثلني

25 مارس 2019
+ الخط -
لا أخفي اعجابي الشديد برئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن، فمنذ اللحظة الأولي لوقوع مجزرة قتل 50 مسلما في مسجدين، تحركت بسرعة للدفاع عن سمعة بلادها الواقعة في جنوب غرب المحيط الهادئ، ومعها تحركت كل أجهزة الدولة في تناغم شديد، الشرطة، الجيش، البرلمان، القضاة، وأيضا وسائل الإعلام.

عقب وقوع الحادث الإرهابي كان من الممكن أن يجري السيناريو التالي: رئيسة وزراء نيوزيلندا تسرع وتصدر بيانا شديد اللهجة تدين فيه الحادث وتهاجم فيه القاتل بأشد العبارات، وبعدها تخرج لتتحدث في مؤتمر صحافي عالمي تعيد فيه التنديد بالحادث الإجرامي، وتؤكد  أن الإرهاب بات ظاهرة عالمية عابرة للقارات، وأن أميركا والدول الأوروبية نفسها أكثر الدول التي تعاني من مثل هذه الحوادث الإرهابية، وأن على المجتمع العالمي التحرك سريعاً لاجتثاث هذه الداء السرطاني الذي بات يهدد الجميع.

وربما تلقي أرديرن بالمسؤولية عن ارتكاب الجريمة على جهات خارجية تريد الإضرار بمصالح نيوزيلندا الخارجية العليا واقتصادها وسياحتها وقطاعها المالي، وبعدها تذهب، وسط حراسة مشددة، إلى مقر الحادث لتضع شموعا أو إكليلا من الزهور، وهنا قد تظن أن دورها السياسي قد انتهى، وأن الدور انتقل إلى أجهزة الشرطة والقضاء التي عليها أن تمارس مهامها بعد ذلك، خاصة أن القاتل اعترف بجريمته بالصوت والصورة على مواقع التواصل الاجتماعي.


لكن السيدة اختارت الحل الأصعب وهو المواجهة العاجلة للآثار الناجمة عن الجريمة الإرهابية البشعة وامتصاص تداعياتها الخطيرة، عملت بسرعة على تبريد المجتمع النيوزيلندي وإطفاء نار الفتنة خاصة بين المسلمين.

ساعتها كان كل ما يشغلها هو الدفاع عن سمعة بلادها وتحسين صورتها عالميا، وعدم تشويه الصورة النمطية المأخوذة عن نيوزيلندا وهي أنها بلد رافض للتطرف والعنصرية وراعي للتعدد، بلد هادئ ومتسامح مع جميع الأديان والأعراق، وواحة للأمان خاصة للفارين من بلادهم بسبب فقر أو اضطهاد عرقي أو من حكام مستبدين.

ورغم تلقيها تهديدًا بالقتل إلا أن جاسيندا أرديرن راحت تتحرك في كل اتجاه غير عابئة بمثل هذه التهديدات، راحت تحشد الجميع ضد المجزرة، وتعلي من القيم الإنسانية في التعامل مع المأساة المفجعة.

استطاعت إدارة الأزمة الناجمة عن الهجوم الإرهابي باحترافية عالية وبراعة وحنكة سياسية، والملفت أن رد فعلها كان رائعا رغم صغر سنها نسبيا، فقد أصبحت أصغر رئيسة حكومة في العالم بعد أن تولت منصبها رئيسة وزراء لنيوزلندا في سن السابعة والثلاثين.

تحركت في كل اتجاه لتطفئ نار الثأر والاحتقان، ولتثبت للجميع أن هذا عملا إرهابيا جبانا يجب إدانته، نجحت بشكل عملي أن تؤكد للجميع أن نيوزيلندا بلد متحضر تسع الجميع بغض النظر عن العرق واللون والدين؛ وأنها بلد تعددية حقا، راحت "تطبطب" على أسر الضحايا وتواسيهم.

حضرت صلاة الجمعة لمشاركة المسلمين صلاتهم والتضامن مع ضحايا الهجوم على المسجدين، راحت تحض شعبها على احتضان المسلمين ومواساتهم، مستشهدة بالحديث النبوي القائل "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

منذ اللحظة الأولى للحادث الإرهابي ارتدت ملابس سوداء للتعبير عن تضامنها مع أهالي الضحايا، لم تكتف بذلك بل ذهبت تواسيهم في مقر عبادتهم. لم تخجل أن ترتدي حجابا أسود تشبّها بالمسلمات. ولم تخش غضب اليمين المتطرف حينما ارتدت الحجاب الذي يعبر عن هوية المرأة المسلمة، كما أمرت الشرطيات النيوزيلانديات بلبس الحجاب تضامنا مع المسلمات.

بكت بلا تكلف وهي تعانق العديد من المسلمات اللواتي فقدن ذويهن في الحادث، كما أمرت برفع الأذان في الجامعة، ونشر كلمة "سلام" باللغة العربية في الصفحة الأولى من أكبر الصحف الصادرة في البلاد.

نجحت تماما في تهدئة غضب الشارع، وكسبت محبة الجميع، وقادت بنفسها النيوزيلانديين من غير المسلمين للتضامن مع أشقائهم المسلمين في طول البلاد وعرضها، حتى أن النيوزيلانديات لبسن الحجاب تضامنا مع المسلمات، وقالت أمام آلاف الأشخاص الذين احتشدوا في مراسم ما قبل خطبة الجمعة مستخدمة المفردات الإسلامية إن "نيوزيلندا تعاني معكم، نحن واحد"، و"إن البلاد كالجسد الواحد".

أقامت فعاليات تضامنية لبث الطمأنينة في قلوب المسلمين إثر حالة القلق والتوجس التي ألمت بهم بعد الاعتداء الإرهابي. وطمأنت الجميع بأن هذه الجريمة البشعة لن تتكرر مستقبلا، حينما تعهدت بتغيير فوري لقوانين الأسلحة، وبأنه سيتم بذل المزيد من العمل لتتبع أسلحة المشتبه بهم.

جاسيندا أرديرن، رغم صغر سنها، أدارت معركة سياسية ومجتمعية بالغة القسوة وباحتراف شديد، مستفيدة من الخبرات التي اكتسبتها، خاصة أنها تعاملت مع المأساة بحنكة سياسية وإنسانية في آن واحد.

جاسيندا أرديرن أفضل عندي من مائة حاكم عربي، وهي أفضل من مليون عالم دين يردد صباح مساء أن النساء ناقصات عقل ودين، جاسيندا أرديرن تمثلني لأنها تعبر عن نقاء الإنسان، لا عن عنصرية الحكام.
مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، مسؤول قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".