أبو لسان زالف

أبو لسان زالف

04 فبراير 2019
+ الخط -
الواد عطوة جاري لسانه زالف، ملوش كلام غير في السياسة، ومن قلة ذوقه يقول: الرئيس شُرابة خُرج! أنا سمعت الجملة ونفضت هدومي وهات يا فكيك؛ فليس من الحكمة أن يزج بي معه في أتون واحد.

ومن يومها، استلمني عطوة في الرايحة والجاية، قال لطوب الأرض فلان ده عرشه خفيف، يتكلم في الهلس وكل ما يدور في بالك، لكن وقت ما تيجي سيرة السياسة يقلب هندي. كنت -بطبيعة الحال- أتحاشى الرد عليه، شخص تطاول على المقام الرفيع لسيادة الرئيس، هل سيعمل لي أي حساب؟!

ودارت الأيام، وخرجت الملايين المملينة لوداع الرئيس وسحت عليه الدموع، والواد قاعد زي التنبل كأن شيئا لم يكن، كرهه للساسة عمى قلبه ونظره. كثيرًا ما بكى -واشتكى- قلة الشغل، وضيق ذات اليد ومصاريف العيال، لكنه لا يتوب عن الكلام في السياسة، ويصر على أن العدل أساس الملك، ويهيم في عوالم لا علاقة لها بالواقع، والناس من حوله تضرب كفًا بكف، وتسأل الله أن يرد عليه البرج اللي طار من نفوخه!


عطوة متأثر بالحاج صميدة الأخرس، رجل رزين ولسانه كما الفرقلة، لكنه يحسن كبح لسانه والسيطرة عليه؛ فخلع الناس عليه لقب الأخرس. لا يتكلم إلا بعد فوات الأوان، أو عندما يستوثق أن من حوله نيام. خشي صميدة على نفسه أن يؤخذ بذنب عطوة؛ فأرسل إليه في ساعة قيلولة والدنيا هُس هُس، ودار بينهما عتاب.

فتح عطوة قلبه وودانه لمثله الأعلى، وسمع منه كلامًا لم يتفتق له ذهنه قبلها، ثم عاد إلى بيته متأملًا في حكمة الحاج صميدة، وحدَّث نفسه مستفسرًا وموبخًا: كيف لم أدرك هذه الفلسفة بعيدة النظر؟ أليس حقًا كل رئيس عندنا هو مصدر كل الحكمة كما أنه مصدر كل السلطات؟ إن الرئيس عندنا يفوق أفلاطون وأرسطو وسقراط، ومن يتشدد لهم من أهل الفلسفة والمنطق والفلسفة، وهو أرجح عقلًا من آلهة الحرب وآلهة الحب وآلهة الهبد، بل إن الشمس تشرق كي تقبِّل خده وتذوب في كفيه كالحناء!

ويظل الرئيس على هذه الشاكلة حتى يتوكل على الله، وعندها يصبح ملطشة للرايح والجاي، وكما يقول المثل "الملك مع هيبته يتشتم في غيبته"؛ فما بالك وقد ذهب لا عودة، وفجأة يتمضمض ماسحو الجوخ بلعنه وسبابه، ثم يتأهبون لبدء وصلة جديدة من سيمفونية عاش الملك مات الملك! أدرك عطوة أن العنتريات تخرب البيوت العامرة، وأن الرئيس متأكد من أن ما يسمعه من عبارات المديح والإطراء محض نفاق، لكنه نفاق يروقه ويطربه فلا يمانع في سماعه، بل ربما طلب أن يشنف به أذنيه من وقت لآخر.

واعتدل عطوة في جلسته، وهو يفرك سيجارة هزيلة بين أصابعة الشقيانة، وشفط شفطة طويلة من كوب الشاي المتقزِّم، ووقف على سذاجته وكيف أنه لم يسمع بقصيدة نزار قباني "عنترة" إلا من الحاج صميدة، وترسخت في نفسه مكانة الحاج صميدة الرجل اللي عارف كل حاجة بس مدكّن، لكن عطوة مع شفطة الشاي الأخيرة سأل نفسه: طيب ومن المسؤول عن الحال ده؟

وألح السؤال عليه طويلًا، ووجد نفسه يسأل كل من يقابله دون جدوى، لكنه سمع من يهتف "منتخبنا كويس.. زي ما قال الريس"، وظن عطوة أن الريس كان مديرًا فنيًا للمنتخب، وفي فرن العيش سمع مفتش التموين يتحدث بلهجة صارمة: لازم الرغيف يطابق المواصفات حسب تعليمات الريس؛ فقفزت إلى ذهن عطوة جملة سمعها من الحاج صميدة، وإن لم يفهم معناها: احنا غلبنا بني إسرائيل في عبادة العجل!