شاي بالملح ... بالهناء والشفاء

شاي بالملح ... بالهناء والشفاء

28 فبراير 2019
+ الخط -
إحدى صفاتي الشخصية الخجل الشديد، لدرجة أنني كنت وأنا طفل صغير أخجل من مصافحة أقاربي من السيدات، أحياناً لا أعرف هل هذه الصفة ميزة أفتخر بها، أم عيب يجب تصويبه وقبل ذلك تفاديه، المهم أنني طوال حياتي تعرضت لمواقف محرجة بسبب استغلال البعض لصفة الخجل عندي.

أكبر الأمثلة على ذلك الأموال التي يقترضها مني البعض ولا يردها بسهولة، وأحيانا لا يردها هؤلاء أصلاً، مستغلين خجلي، وأنني لن أعرض أي شخص لموقف محرج أمام أحد، بل ولا أمام نفسه حينما أطالبه بإعادة ما اقترضه.

مثلا اقترض مني أحد الأشخاص مبلغا من المال، وعندما طلبت استرداده بعد سنوات، قال لي بهدوء شديد وكأنه فوجئ بطلبي: "ظننت أنك منحتني هذا المال بنية الصدقة التي لا ترد وليس بنية السلف"، ساعتها زاد بياض عينيّ اتساعا وفتحت فمي من رد الفعل الغريب، خاصة وأن هذا الشخص متوسط الحال فهو يمتلك سيارة ووحدة سكنية وأموره المالية مستقرة، لأن لديه دخلا ثابتا، وشخصيا أنا لا أحب الاستدانة، بل وأعتبرها "همّ بالليل وذلّ بالنهار"، ولذا أتوقع من أي مقترض الإسراع بسداد ما عليه عندما تتوافر لديه السيولة وربنا يفكها عليه، بل وأتوقع أن يبيع المدين أي أصل لديه للسداد، لا أن يتنصل من سداد ما عليه أصلا.

وبعد أن استجمعت قواي واسترددت تفكيري، ذكرت هذا الشخص بكلامه عندما اقترض مني هذا المال، إذ قال نصا: "سلفني عدة آلاف من الجنيهات وسأردها لك في أقرب وقت، فأنا بحاجة شديدة لهذا المال"، ورغم تذكيره بالموقف واعترافه بصحته لم يرد هذا الشخص المال الذي اقترضه مني قبل سنوات حتى اللحظة، ولا يزال يواصل الهروب من السداد بحجة أنني لست بحاجة إلى هذا المال، ولا يزال خجلي وخوفي على سمعته يحولان دون اتخاذ أي خطوة قد تسبب له حرجا أمام من حوله.


قرض "تيك أواي"
اقترض مني شخص آخر مبلغا كبيرا من المال لغرض محدد، قائلا لي إنه سيقترضه لمدة يوم واحد، وعندما قابلته في اليوم التالي، قال لي: "أمهلني أياماً لسداد المبلغ، وبعدها أسبوعاً، وبعدها أسبوعين، ثم شهراً بحد أقصى، فإذا بالشهر يمتد لسنوات طويلة".

ومنذ 15 عاما اقترض مني شخص ثالث مبلغا محترما بحجة سداد ديون متأخرة مستحقة عليه، فإذا به لا يسدد المبلغ حتى اللحظة رغم وضعه المالي المستقر، إذ اشترى شقة وسيارة وغيرها من العقارات والأصول، وبعد هذه السنوات طلبت منه سداد ما عليه، فإذا به يزعم أنه يمر بظروف مالية صعبة، وأنه ورث ديونا كثيرة كانت مستحقة على عائلته، وكالعادة يمنعني خجلي من الضغط عليه.

موت مقابل تفادي مشكلة عائلية
كل هذا مقبول ويمكن تفسير سلوكيات بعض هؤلاء على أنه طمع بما في أيدي من حولهم، أو أنه استغلال لخجلي وأنني لن أطالبه بالسداد، أو أنه كان صادقا في وعده، لكن ظروفا حالت دون السداد في الموعد المحدد، لكن ما حدث لي في أحد الأيام شيء يفوق الخيال.

قبل نحو 20 عاما زرت صديقاً لي في يوم قارس البرودة، وعقب جلوسي قدّم لي كوب شاي أسود، فوافقت على الفور، خاصة وأن العادة في القرى هي أن تقبل "عزومة" الشاي حتى لا يضطر صاحب الدار لشراء مشروب من الخارج، كما وافقت على عرضه حتى لا يتم التعامل معي على أنني شخص متكبر، وأن إقامتي في المدينة غيّرتني، وأن الغربة اقتلعتني من جذوري الريفية، هكذا ينظر أهل الريف عادة لأمثالنا الذين ابتلعتهم العاصمة القاهرة بعد أن تلقوا تعليمهم الجامعي فيها.

وبصوت عالٍ نادى صديقي على زوجته، طالبا منها إعداد كوب "محترم" من الشاي، أول ما لفت نظري في الكوب عقب إعداده أن كمية الشاي فيه كثيرة، إذ كان قاتم اللون حالك السواد، لا يهم ولا توجد مشكلة، سيتم تناول المشروب، فالملاحظات ممنوعة وإلا تسببت في حدوث مشكلة عائلية.

وبينما نحن نتجاذب أطراف الحديث طلب مني صديقي أن أشرب الشاي الموجود أمامي حتى لا يبرد، وبالتالي يفقد مفعوله، مددت يدي، وما إن ارتشفت أول رشفة حتى شعرت أن سكاكين الدنيا تقطع أحشائي وقبلها لساني، وأن رعشة شديدة سرت في كل جزء من جسدي.

يا إلهي، الشاي مليء بالملح الأبيض، لقد نسيت الزوجة ووضعت ثلاث ملاعق ملح في الشاي بدلاً من ثلاث ملاعق السكر، وبسرعة ودون أن أشعر رددت كوب الشاي إلى الصينية وتركته محاولاً امتصاص ما بداخلي من شعور سيئ حتى لا يظهر على ملامح وجهي، فما كان من صديقي إلا أن سألني بسرعة "ألا يعجبك الشاي، هل هو شاي خفيف لا يناسبك"، وبسرعة رددت: "الشاي ممتاز.. تسلم إيد أم فلان"، أقصد زوجته.

ساعتها خفت على زوجته من تعرضها لمشكلة مع زوجها، كان صديقي من قلب الصعيد، وإبلاغه بما حدث كان يعني مباشرة أن يقسم على زوجته أن تذهب إلى بيت أبيها في الحال، بل وقد ينتهي الأمر بالطلاق، وهناك قصص كثيرة كانت محفورة في ذاكرتي بسبب هذه المواقف.

آثرت السلامة، وقلت لنفسي: "لن أكمل شرب كوب الشاي مهما حدث، وفي نفس الوقت لن أتحدث بما أشعر به حتى لا تضار الزوجة أو أتسبب في مشكلة عائلية لا داعي لها".

وبينما كنت أفكر في حيلة للتخلص من كوب الشاي "القنبلة"، مثل أن أقلب الصينية بحركة عفوية، تراجعت بسرعة، لأن صديقي قد يطلب من زوجته إعداد كوب آخر، وربما يتكرر مقلب الملح بنفس السيناريو.

وبينما أفكر في المأزق الذي أمر به، إذا بصديقي يعاود وبإصرار طلبه مني استكمال شرب كوب الشاي، قائلا لي: "هل تريد أن تبور بناتي"، أي ألّا يتزوجن، فقلت له: "إطلاقاً، ربنا يخليهم لك ويرزقهم بأزواج طيبين"، فقال: "طيب، أكمل شرب الشاي".

مددت يدي وكأنني أمد يدي إلى سكين أذبح بها نفسي، وواصلت شرب نصف الكوب إلى أن أقسم عليّ بالطلاق بشرب الكوب كاملاً وإلا سيغضب مني ولن يزورني أبداً في بيتي في القاهرة، أغمضت عيني وشربت باقي الكوب حتى آخر رشفة، وكانت النتيجة مرضاً في المعدة والأمعاء لمدة أسبوع كامل.

مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، مسؤول قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".