صرخة الحياة

صرخة الحياة

24 فبراير 2019
+ الخط -
مع لحظات الحياة الأولى، يستهل المولود صارخًا، وتختلف التفسيرات والتكهنات حول مبعث صرخته، لكنه يصرخ بعدها مرارًا، وبعض صرخاته المكتومة تئن على الورق والمدونات وربما مواقع التواصل.

العمل الأول للأديب أو الفنان والمبدع -على وجه العموم- تمثل صرخة ميلاده في هذا الميدان، ويختلف التعامل مع تلك الصرخة، وللناس في ما يعشقون مذاهب.

قد تهلل القابلات وتبارك خروج الوليد الجديد، وتخلع عليه صفات الحكمة والقوة والجزالة والحداثة، والقابلات بشر على كل حال، وأحكام البشر ليست قوانين كونية. على النقيض، قوبلت صرخات آخرين بصرخات أقوى، ومورست عليهم ضغوط ليعودوا من حيث أتوا، والنقاد لا يختلفون كثيرًا عن القابلات قديمًا وأطباء النساء والتوليد اليوم.

حاز الروائي الكولومبي، غابرييل غارسيا ماركيز، جائزة نوبل عام 1982، ولم تكن صرخته الأولى "ما يتساقط من أوراق" ذات قيمة أدبية، وأجمع النقاد على تأثره بأسلوب الروائي الأميركي وليام فوكنر، ورموه بالتقليد الرخيص، وأنه لا يملك أسلوبًا خاصًا وهوية أدبية متفردة تشهد له في دنيا الأدب.


وبمرور الأعمال –لا أقول الأعوام- اختط ماركيز لنفسه أسلوب الواقعية السحرية، ولزم بابه حتى طارت به شهرته وطبقت الآفاق، وتبرأ أسلوبه من فوكنر شيئًا فشيئا، وكما أن الجنين يتكون في أطوار متتابعة؛ فإن تطور الأسلوب يلزمه وقت وزاد يسمح بنموه ونضجه.

ولعلك تعرف أقلامًا رشيقة التأثير، لكنها أصيبت بإنفلونزا الخمول، وترددت كثيرًا في الخروج إلى الساحة، وكلما طال انتظارها خمدت جذوة إبداعها، وانطمرت في عداد النسيان! فلو أن هؤلاء أخرجوا ما في جَعبتهم، وسمحوا لأطباء الولادة بفحص طفلهم، وكتبوا لهم التوصيات النقدية المناسبة للحالة؛ فلربما غيروا خريطة الأدب والفن بنتاجات قرائحهم وأقلامهم.

يضعك الإصدار الأول على المحك، وتستمع إلى كثير من النقد والتوجيه، ويفتح عينيك على عوالم لم تبصرها، ثم يترك لك المجال فسيحًا للتعديل والتحسين في مقتبل أعمالك؛ فلا تجلس على الشاطئ وتنتظر أن تبتل أصابعك بالماء، واخلع عنك أسمال التخاذل والتراخي، وانزل البحر واضرب الخافقين بجناحيك، وستجد لذة المغامرة وطعم النجاح، ولو بعد حين.

لم يقل أحد العقلاء إن الولادة سهلة؛ فهذا كريم العراقي يؤكد أهمية الصبر (صبرٌ جميلٌ والولادةُ صعبةٌ)، ومن قبله نزار قباني في "كتاب الحب" مخاطبًا حبيبته (حُبُّكِ مثل الموت والولادة صعبٌ بأن يُعاد مرتين)، ومع أنها صعبة إلا أنها إسهام في الحياة وإضافة لها، وإن قوبل المولود بفتور وأصابك "اكتئاب ما بعد الولادة"؛ فإن تعاملك الحكيم معه يحيله إلى نعمة، وتجني ثمراته مع المولود الثاني وما بعده.

إياك أن تؤمن بوسائل أو حبوب منع الكتابة، ثم إياك أن تترك نفسك نهبة للإهمال؛ فاكتب واجتهد أن تطوِّر ملكاتك وأدواتك، ورويدًا رويدا ستدهش لما وصلت إليه من براعة وأصالة. لا تقف في منتصف الطريق؛ فإن الإبحار يكون من شاطئ إلى آخر، ومن يتوقف في عرض البحر سيعض على أصابع الندم؛ فاكتب بغزارة إن استطعت، واترك أمر نضج قلمك وأسلوبك يأتي طوعًا، ولا تغرق في نومك بدعوى انتظار نضج أسلوبك –عجل الله نضجه- فتقضى ولم تنجز قليلًا أو كثيرا.

واحذر هالة الكمال الأدبي؛ فإن بعض من انتظروا أن تكلل صرختهم الأولى بالكمال الأدبي فاتهم قطار الحياة، ومنهم من رافقته الهالة ثم انقشعت عنه سريعًا؛ فإن عادل كامل حصد جائزة الدولة عام 1957 مناصفة مع نجيب محفوظ، وبعد الرواية الثانية طلَّق كامل الأدب ولاذ بالمحاماة! تعجَّل النتيجة وظن أن الأدب لم ينصفه؛ فأعطاه ظهره وأجهض أدبه بيده.

ويحدث أن يترك المولود الأول أثرًا طيبًا؛ فلا تركن إليه واعمد إلى إخوته، وكن مكثارًا إن استطعت؛ فإن كثرة الكتابة تهذِب الأسلوب وتضفي عليه مسحة لن تظفر بها حال خمولك. وإياك والغرور! فلربما يقضي مولودك الأول على حياتك بأسرها، ولك في ما جرى لـ "فرانسواز ساغان" آية، ولنا معها وقفة أخرى.

دلالات