أوزيل والتذكرة الحمدونية!

أوزيل والتذكرة الحمدونية!

23 ديسمبر 2019
+ الخط -
جاءت الدفعات الأولى من مخصصات العقوبة سريعة، شجبٌ وتنديد على الطريقة العربية، متبوعة بالتبرؤ من تبعة القائل ومقولته، أو بالأحرى المغرِّد وتغريدته، ثم تحدٍ أمام العالم لإحراج الرجل، متزامنًا مع استبعاده من لعبة إلكترونية! هذا ما جرته الكلمة على صاحبها يوم الجمعة 13 ديسمبر/كانون الأول الجاري.


مرة أخرى -وليست أخيرة- يعود أكثم بن صيفي -حكيم العرب الكبير- إلى صدارة المشهد، وهو القائل "إن قولَ الحق لم يدع لي صديقًا"، إذ ارتفع هرمون الشهامة في دماء اللاعب الألماني -التركي الأصل- مسعود أوزيل، وكتب عن مسلمي الصين من قومية الإيغور، وندد بالصمت الإسلامي والعالمي إزاء قمع الحكومة الصينية لهم؛ ليفتح على نفسه النيران الصديقة وغير الصديقة!

كتب أوزيل: "في تركستان الشرقية المصاحف تُحرق، والمساجد تُغلق، والمدارس تُحظر، وعلماء الدين يُقتلون واحداً تلو الآخر، ويُساق الرجال قسريًا إلى المعسكرات، والعالم الإسلامي غارق في الصمت".

قوبلت كلمات أوزيل بالصدمة، وتبرأ نادي أرسنال من لاعبه، وأشار إلى أن التغريدة تعبر عن موقفٍ شخصي وليس توجه النادي، ومنع التلفزيون الرسمي بث مباراة أرسنال ومانشستر سيتي، وخرج مشجعون صينيون في مظاهرات أحرقوا فيها قميص أرسنال. من جانبها قررت شركة "نت إيز" البريطانية، منتجة النسخة الصينية من لعبة "PES" (برو إيفُلوشن سوكر 2020)، إبعاد أوزيل من ثلاث نسخٍ للعبة، مبررة ذلك بأنه جرح مشاعر المعجبين الصينيين، وخرق قواعد الروح الرياضية، وتشنجت الشركة قائلة إنها "لا تفهم أو تقبل أو تسامح هذه التصرفات".


ليس مهمًا أن يكون الكلام صحيحًا، ولا علاقة للأمر بصدور قرار من الأمم المتحدة يدين ممارسات الصين واضطهادهم قومية الإيغور، ويجب غض الطرف عن التشريع الأميركي لفرض عقوبات على بيجين في إطار الموضوع ذاته! كل ذلك لا يقلق الشركة البريطانية، ولا تقلقها مشاعر الصينيين، إنما تهتم بالتبعة الاقتصادية لغضب السوق الصيني؛ فالأسهم سيدة الموقف، أما المبادئ والمثل فلا تزيد عن مجرد شكليات، وكلمات تلوكها الألسنة لدغدغة العواطف من آن إلى آخر.

صداعٌ جديد يدوي في رأس بيجين؛ فتسليط الأضواء على معاناة الإيغور يضع الصين في ورطة ليست في الحسبان؛ فقبل أيام وتحديدًا في 25 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أغلقت الصين حساب المراهقة الأميركية، فيروز عزيز، على تطبيق "تيك توك"؛ لأنها تحدثت عن معاناة مسلمي الصين، وأزال التطبيق نفسه عددًا من مقاطع الفيديو تناولت المشكلة عينها.

ففي مقطع مرئي مدته 40 ثانية، قالت فيروز عزيز: "مرحبًا يا رفاق! سأعلمكم كيف تحصلون على رموش طويلة. عليكم مسك مجعد الرموش، ولف رموشكم"، إلى هنا لا مشكلة ولا حساسية صينية، لكنها تابعت: "وتضعونه جانبًا، للإمساك بهاتفكم لكي تبحثوا عما يحصل في الصين من معسكرات اعتقال يوضع فيها المسلمون الأبرياء، ويُفصلون عن عائلاتهم، ويُخطفون، ويُقتلون، ويُغتصبون، ويجبرون على تناول لحم الخنزير وشرب الكحول، واعتناق ديانة مختلفة، وإلا فالقتل سيكون مصيرهم".

على تطبيق "تيك توك" (مقره العاصمة الصينية)، يبلع عدد متابعي فيروز عزيز 50 ألف متابع، وقد سبقت أوزيل بالحديث عن معاناة الإيغور، ثم غرَّد أوزيل ويقدر متابعوه على "تويتر" بنحو 25 مليون متابع (من بينهم أربعة ملايين صيني)، ما يعني أن كرة الثلج تكبر، وأن التعتيم الإعلامي الصيني على معسكرات "إعادة التأهيل" لن يطول، وسيأتي يومٌ تصبح فيه معسكرات التأهيل رهن إشارة التاريخ.


تباينت ردود الأفعال الرسمية بعد تغريدة أوزيل؛ فهاجت قيادات الحزب الشيوعي الصيني، وقال المتحدث باسم الخارجية الصينية، غنغ شوانغ، إن لاعب أرسنال الإنكليزي "ضحية أخبار زائفة"، ودعاه إلى زيارة إقليم شينجيانغ "للتمييز بين الصواب والخطأ"، وركب السفير الصيني بالقاهرة الموجة ودندن على وتر محاربة الإرهاب مثلما يحدث في مصر، مهيبًا بالمصريين ألا ينساقوا وراء الأقاويل المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي. في حين دافع وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، عن أوزيل قائلًا "لا تستطيع الصين إخفاء انتهاكها لحقوق الإنسان".

وللكلمة تبعات جسيمة، قد يدفع المرء عمره لقاء كلمة، إن قالها قولة فيروز عزيز ومسعود أوزيل على الملأ أو لمَّح بها ولم يصرِّح على طريقة الأدباء والكتاب، وقد أضرمت النيران في ابن المقفع بتهمة الزندقة، ونُكِبَ ابن رشد أواخر حياته، وأخِذ السهروردي والحلاج وصالح بن عبد القدوس، وآخرون كثر حوكموا وعوقبوا بالموت لقاء كلمات قالوها إن صدقًا وإن كذبًا!

وكما جنت على أهلها براقش؛ فإن التذكرة جنت على ابن حمدون! وابن حمدون هذا من بيت فضلٍ وعلم، أبوه الحسن بن محمد بن علي بن حمدون، وكنيته أبو سعيد، وقد اتصل بالخلفاء وكان من شيوخ الكتاب المقدمين، ومن الأدباء المبرزين، وله مؤلف "معرفة الأعمال"، ومات معمرًا في عاشر جمادى الأولى سنة 546هـ/1151م.

أعقب أبو سعيد ثلاثة من البنين؛ أبو النصر وأبو المظفر وصاحبنا أبو المعالي مؤلف كتاب التذكرة، ولأن الشيء بالشيء يذكر؛ فإن مكانة الوالد وإنجاب ثلاثة من البنين يتجه أحدهم أو كلهم إلى مجال التأليف والكتابة، يربطنا بابن الأثير الجزري، وقد كان أبوه قريبًا من الخلفاء، واستطاع أبناؤه أن يحفروا أسماءهم في عالم المؤلفين؛ فأحدهم تخصص في الحديث والغريب، والتمع اسم ابن الأثير المؤرخ.

نعود إلى ما استطردنا عنه، فقد ولد أبو المعالي محمد بن الحسن الحمدوني في دار السلام –بغداد- إبان رجب سنة 495هـ/1101م، كان من فضلاء عصره واشتهر في دواوين الكتابة، حتى لقِّب "كافي الكفاة البغدادي"، وقرَّبه الخليفة المستنجد وولاه ديوان الزمام، حتى جعله من صفوة جلسائه.

ألّف كتاب التذكرة الحمدونية، وفيه جمع صفوة ما طالعه في بطون كتب الأدب، واختلفوا في قيمة التذكرة؛ فقال العماد الأصبهاني في الخريدة: "وألف كتابًا سماه بالتذكرة، جمع فيه الغث والسمين والمعرفة والنكرة"، أما ابن خلكان فيقول: "من أحسن المجاميع، ويشتمل على التاريخ والنوادر والأشعار، ولم يجمع أحد من المتأخرين مثله".

وقفت بطانة المستنجد على بعض حكايات لم تعجبها، وأوحت إلى المستنجد أنها تغريدات سامة وكتابات مُغرضة تضر بهيبة الدولة وتمس الأمن، وتكدر السلم العام في أنحاء البلاد، ولفقوا لابن حمدون عددًا من التهم المطاطية. ارتأى بعضهم أنه يغمز في قناة الدولة، وينتقص من هيبتها ويعرِّض بقضاتها ويهزأ بمطبليها وأبواقها، وأنه أخطر على الدولة من الأستاذين محمود المليجي وغسان مطر، ولا بد من إسكاته ولو بالمنشار.

وعلى عادة الحكومات، زارت قوات الأمن العباسي ابن حمدون قبل الفجر، ونقلته من الوزارة إلى السجن المشدد مدى الحياة؛ فمات في حبسه يوم الثلاثاء حادي عشر ذي القعدة سنة 562هـ/1166م، ودفن بمدافن قريش في بغداد. طويت صفحة ابن حمدون وكتمت أنفاسه، ليس لأنه إرهابي، ولا لأنه متهم بالطموح أو تحسين أوضاع الشعب، ولا لأن لديه أطماعاً سياسية، بل لأنه كتب شيئًا لا يعجب الباب العالي!

حال ابن حمدون مع المستنجد يذكرنا بأبي مسلم الخرساني وقد غدر به أبو جعفر المنصور، بالبرامكة وقد نكبهم الرشيد، وبالحسن بن سهل وقد فتك به المأمون، وابن عمار الأندلسي مع المعتمد بن عباد في إشبيلية، أسعد بن المهذب -وزير صلاح الدين الأيوبي- وقد نكبه غريمه صفي الدين بن شكر -وزير الملك العادل- والأمثلة في التاريخ الحديث لا تعد ولا تحصى، والأيام دول.

أما ابنه أبو سعد الحسن -الملقب تاج الدين (ت 608هـ/1211م)- وإن امتهن حرفة أبيه، وأصبح من الأدباء المصنفين النساخ، وجمع خزانة كتبٍ نفيسة، لكنه لم يقوَ على إذاعة التذكرة الحمدونية خوفا مما طرق أباه (أصابه)، واختار أن يعيش داخل الحائط لا جانبه، وأن يطأطئ رأسه وياكل عيش والسلام، ولكلٍ وجهةٌ هو موليها.