عن الطفولة ورغبة الكتابة

عن الطفولة ورغبة الكتابة

12 ديسمبر 2019
+ الخط -
شجّعني أبي وأمي على الدراسة، وكان أبي يرغب في أن أدخل كلية الطب والسفر إلى إحدى الدول الأجنبية لدراسته والتخصص فيه، وكنت منذ الطفولة أكره الأطبّاء، وأحبّ الفن والكتابة، لكني أطعتُ أبي وأمي في دراسة الحقوق، والالتحاق بجامعة بيروت العربية لأجل الدراسة وليس حبّاً بها، وإن كنت أحب دراسة علم الاجتماع، المفضّل بالنسبة لي، ليس خوفاً من العقاب، وإنما لإرضائهما وتلبية رغبتيهما في الدراسة.

وكثيراً ما كانا يلحّان عليّ في عدم إضاعة الوقت سدىً في اتباع الهوايات والرغبات الأخرى، ومثالها ممارسة لعبة كرة القدم، ومتابعة أنشطتها وما تتصدره مانشيتاتها الكبيرة الصادرة في العاصمة، وبصورةٍ خاصة الدوري الإنكليزي الممتاز الذي كنت أواظب على حضور جميع مبارياته من على الشاشة الصغيرة بالأبيض والأسود، وإن فاتتني واحدة منها فإنّي كنت أستعين بأحد الأصدقاء الذين كانوا يتابعون ما فاتهم من خلال اللجوء إلى شراء شريط فيديو، أو متابعتها نتيجة تسجيلهم لها، أو من خلال قراء الصحف والمجلات الرياضية، ومنها مجلة الصقر الرياضية التي كانت تستهويني بشغف لما كان ينشر فيها من مواد صحافية مفيدة وتواكب كل ما هو جديد في عالم الرياضة، أو كتابة ما يجول بخاطري من مواقف رياضية وغيرها كانت من ضمن اهتماماتي، أو الخلود إلى فراشي في ساعة متأخرة من الليل وقراءة ما تحتويه مكتبتي المتواضعة من روايات الكاتب الكبير نجيب محفوظ، أو عملاق النقد الأدبي محمد رجاء النقاش، أو متابعة ما ينشر من مقالات في مجلة الدوحة القطرية لكبار الكتاب، ومن أهمهم: يوسف الشاروني، رؤوف توفيق، عباس خضر، فتحي رضوان، عصام شريح، عبد الله الجفري، يوسف إدريس، فضلاً عن رائد القصة العربية الطبيب عبد السلام العجيلي، وغيرها من الاهتمامات الأخرى.


فلم يكن في بيتنا خوف، كنت أحب والديَّ وأحترمهما، أشعر بحبهما واحترامهما لشطحات طفولتي، بينما كنت أرى الآباء والأمهات في البيوت الأخرى يسخرون من عقول أطفالهم، أغلب البيوت التي أدخلها، في الزيارات لعائلة أمي بالرَّقة، تحتوي على غرفة هامة، لا تفتح إلّا للزوّار، يسمونها "الصالون"، بها مقاعد ضخمة قماشها من الحرير اللامع، مساندها عالية حوافها ذهبية، البيت مليء بالأثاث الثمين، ليس فيه مكتبة، أو رفّ واحد يحملُ الكتب، بيوت الطبقة المتعلّمة العليا لم تكن تمارس القراءة، أما بيوت عائلة أبي بالقرية، فكانت أغلبها للفلاحين الفقراء الذين لم يتعلموا القراءة أو الكتابة.

أبي وأمي نال كل منهما قسطاً من التعليم والثقافة، فتحت عيني على مكتبة بسيطة في بيتنا، تحمل رفوف الكتب بالعربية، ثم أضفت إليها المزيد من الروايات والكتب بالإنكليزية، بعدما كبرت وتعددت دراساتي في الأدب والفلسفة والتاريخ، وغيرها من فروع المعرفة.

قرأت الأدب والشعر العربي القديم والحديث في مكتبة أبي المتواضعة وهو الذي كان يحرص على اقتناء الكتب وأخبار الناس والعشائر، ومن أهم ما كان يقرأ القرآن الكريم بصورةٍ دائمة، وفي أغلب الأوقات، وكان يقول: لا ينفصل القديم عن الحديث، فالماضي والحاضر والمستقبل جسد واحد لا يتمزّق، تعرفت على أفكار الجاحظ، والمعري، والخنساء، وبشار ابن برد، والمتنبي، وابن سينا، وابن رشد، والمنفلوطي، والعقاد، وطه حسين، وجلال أمين، وعبد السلام العجيلي، ومحمد رجاء النقاش، وأحمد بهاء الدين، ونجيب محفوظ، وغيرهم.

ويقول أبي: اقرأ أكثر مما تسمع، لا تنقل من الكتب، اقرأ وأنسى ما قرأت، لا تضيّع الأشياء المهمّة رغم النسيان.

الكتابة تجربة شخصية، اكتب تجربتك، مشاعرك، أفكارك، وإن بدت لك تافهة لا تستحق الكتابة، كل تجربة تستحق الكتابة لأي عاقل أو مجنون، وقد يدرك المجنون "الحر" ما لا يدركه العاقل المسجون، كان أبي يضحك كثيراً وهو يردّد أشعار ابي نواس أو بشار ابن برد، أو حتى نزار قباني، وكان يقرأ باستمرار روايات ومقالات العجيلي رحمه الله، وكان شغوفاً بها.

كان أبي يُحب المرح والفكاهة، ويقول: تنبع الفكاهة من المعرفة، وتؤدي الفكاهة إلى مزيد من المعرفة.

لم يحب أبى الخطب الرنانة، التي أدمنها رجال السياسة والأحزاب، يسخر منها قائلاً: "أسمع ضجيجاً ولا أرى طحناً" أغلب الخطب السياسية تنم عن التسلّط والاستعلاء.

كان أبي يكرهُ السلطة والحكّام، لا يحب الضجّة والزحام، يُفضل القراءة بعينيه عن السماع بأذنيه، ويقول: الكتابة تكره علو الصوت، التفكير يحتاجُ إلى الصمت.

كان أبي متواضعاً، منخفض الصوت، لم يرتفع صوته إلّا مرةً واحدة، حين اتهمته أمي بالخيانة الزوجية، رأته في منامها مع امرأة أخرى فاستيقظت غاضبةً، صاح أبي "أنا مسؤول عن أحلامك يا سلمى؟ وقالت له أمي: لا دخان من غير نار، ولا ينفصل الحلم عن الحقيقة".

كانت أمي وهي تلميذة في مطلع صباها الذي لم يكتمل مع المعرفة ومع إكمال دراستها تحب الإنصات إلى الشعر، وتحلم بأن تكون كاتبة أو شاعرة أو عالمة، لكن أخرجها أبوها بالقوّة من المدرسة، ليزوجها من أبي، فتوقفت تماماً عن الكتابة والطموح الأدبي أو العلمي، واكتفت بإنجاب ثلاثة عشر من الأطفال.

كانت والدتي نشيطة دؤوبة الحركة إلى حد بعيد، وكانت تتولى قوام أسرة مكوّنة من أب وأم وزوجة أب، فضلاً عن أفراد الأسرة وعددهم تسعة عشر فرداً من البنات والبنين يقيمون جميعهم في بيت واحد، مساحته كبيرة وغرفه واسعة. كانت أمي تقوم بمفردها على تعليم أخواتي البنات الست الخياطة التي كانت تدر عليهن دخلاً مقبولاً يساعد والدي بعض الشيء على مصروف الأسرة الكبيرة، وساهمت أيضاً في تعليم خالتي، زوجة أبي وأخواتي من أبي على تعليمهن حرفة الخياطة التي كانت لها مكانتها في تجاوز الكثير من المعاناة وتجاوز الفاقة والعوز في الحياة، وخففت الى حدٍ بعيد من حاجتهن للمال بطلب المساعدة من الغير لتلبية ما يحتجنه بصورة مستمرة. فقد كنّ مكتفيات مادياً، ويشاركن في الأفراح التي تقام في الحي الذي نعيش فيه بارتداء حليهن البسيطة، ورغم أن دخل والدي كان جيداً، وهو التاجر الذي كان يبيع ويشتري الأغنام، وفضل علينا من جهده وتفانيه وحبّه لعمله، ثم مات أمي رحمه الله وهو في الثالثة والستين من عمره، وأمي ظلّت، ولله الحمد، تنعم بالحياة وإلى اليوم تعيش حياتها صابرة على الرغم من وجع الحياة التي عاشتها.

لم تكفّ أمي عن الضحك والسخرية، خاصة من مؤسسة الزواج، كانت تقول عنها: مقبرة المرأة. ومات أبي وهو واقف كما تسقط الأشجار، لم يرقد مريضاً، وكان يقول: سأموت وأنا أمشي.

وبعد إحالته للمعاش لبلوغه الستين وما يزيد من هموم الحياة ومشاكلها والجهد الذي بذل لقاء قوام أسرة كبيرة، ولم يفكر أحد من أبنائه يوماً في مساعدته والأخذ بيده لسد جزء من مطالبها، وإن كان لا يقبل شخصياً ذلك، فردَ ذراعيه وقالَ: أخيراً سأكتب بعد أن تحرّرت من سجن الحياة، وإن كنا فقدناه في صبيحة يوم مشؤوم وهو منطلق إلى عمله الذي يَغرقُ فيه وكان يوليه أهميةً كبيرةً، ويكسب منه لقمة عيش أسرته التي لم يتردّد يوماً في تأمين احتياجاتها، وما أكثرها، لكنه مات بعد أيام قليلة دون أن يكتب شيئاً.

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.