اليأس الإبداعي واعتزال الكتابة (1/2)

اليأس الإبداعي واعتزال الكتابة (1/2)

11 نوفمبر 2019
+ الخط -
في الخامس والعشرين من يوليو/تموز الماضي، فاز الشاب مصطفى التواني بجائزة معهد غوته للقصص القصيرة، لم يكن طموحه -إن أفرط في التفاؤل- أن يكون بين المراكز الأولى، ومع ذلك فقد فاز بالجائزة، وتشي موهبته بكتابة إبداعية واعدة. نقف هنا على مسألتين؛ الأولى أهمية هذه المسابقات في اكتشاف المواهب، والثانية تأثير الفوز على الشهية الأدبية للمستجدين في دنيا الأدب وعالم الإبداع.

في الإطار ذاته، نجد أنفسنا محصورين بقواعد وكليشيهات، وهذا يردنا إلى ما يزيد عن نصف قرن؛ فنلمح شابًا تخرج في كلية الحقوق، وكتب في الصحف والمجلات الشيء المعقول، ما أتاح له التعرف إلى بعض شباب الأدباء أمثال نجيب محفوظ، ويقتحم مجال القصة القصيرة بأسلوب متفرد، وتتوالى نجاحاته حتى يقرر التقدم لمسابقة مجمع فؤاد الأول (مجمع اللغة العربية لاحقًا).

لم يضع التلواني في حساباته أن يفوز بالجائزة، بينما صاحبنا القديم على العكس تمامًا، ولكل منهما ما ارتكز عليه في تقدير الموقف؛ فالتلواني أصدر ديوان "ضحكة طالبة تأشيرة"، وفي 2016 أصدر ديوانه الثاني "أرابيسك"، ثم صام عن الكتابة ولم يقرر الالتحاق بمسابقة القاهرة للقصص القصيرة التابعة لمعهد غوته، وبعد إلحاح من بعض الأصدقاء قرر أن يجرِّب حظه و"بختك يا أبو بخيت"!


بينما صاحبنا الأول، أحد مؤسسي شلة "الحرافيش" وقد دعا صديقه محفوظ للانضمام إليها، واسمه عادل كامل، دخل مسابقة مجمع فؤاد الأول باسم لامع في عالم القصة، واختار أفضل ما كتب حتى تاريخ المسابقة، ووقع اختياره على "مليم الأكبر" ليباري بها على اقتناص الجائزة. لم يضع في حسبانه أن الجوائز تتأثر بعوامل مختلفة، وليس بالضرورة أن تعطى للعمل الأفضل؛ فالاعتبارات الأخرى حاضرة وبقوة في ترجيح كفة أحدهم، والحديث عن النزاهة والموضوعية أمر فضفاض، لا يصدقه الواقع المعاش في أحايين كثيرة.

بشهادة النقاد والكتاب، يعد فوز عادل كامل من نافلة القول؛ ففي عام 1943 فازت روايته "ملك من شعاع" بالمركز الأول في المسابقة عينها، وجاء نجيب محفوظ وصيفًا بروايته "كفاح طيبة"، وحل يوسف جوهر ثالثًا. لكن هذه المرة جاءت النتيجة مخيبة لآماله، لم يفز بالجائزة عمل حداثي في لغته ومضمونه، بل فاز اسم أكثر لمعانًا وأقوى علاقات، فاز محمد عبد الحليم عبد الله بالمركز الأول.

يعد عبد الحليم عبد الله صاحب قلم وتجربة أدبية، لكنه تقدم للمسابقة بقصة عنوانها "لقيطة"، وأفرط في السجع وتكلف في المحسنات البديعية، حتى خلع عليها بعض النقاد وصف "ملحق المقامات"، في إشارة إلى مقامات بديع الزمان الهمذاني (358-395هـ) مبتكر فن المقامات في القرن الرابع الهجري، وصنوه أبو محمد القاسم الحريري (446-516هـ). ضاق صدر عادل كامل، وشعر أن لجنة الجائزة هضمت حقه، وأن هذا الظلم لا يغتفر؛ فقرر أن يكسر قلمه إلى الأبد!

لك أن تتخيل شيئًا ربما يفيد في تقييم موقف الرجل، أو لنقل في فهم طبيعة الموقف العام؛ ففي العام نفسه رفضت لجنة الجائزة رواية "السراب"، ولم يقرر محفوظ اعتزال الكتابة، بل واصل دونما غضب أو حمية وانتقام من نفسه ومن لجنة جائزة. أجهض عادل كامل موهبته بيده، وفي قمة عطائه الأدبي اعتزل الكتابة فجأة، بعد أن كتب عددًا من الروائع مثل ضباب ورماد، ويك عنتر، ويك تحتمس، ملك من شعاع، مليم الأكبر. بحلول عام 1945، داخله الشك في جدوى الأدب والإبداع، وأيقن أن الأدب لم يحقق آماله الذاتية، وأن الأدب غير مُجدٍ؛ فعدل عنه إلى مهنة المحاماة دفعًا للفقر وحرفة الأدب.

لم ينضب معين صاحب مليم الأكبر، لكنه اتخذ من الأدب موقفًا لم يتراجع عنه، ولم تفلح محاولات نجيب محفوظ في إقناعه بالعودة للكتابة، ما يعني أن اعتزاله الكتابة نابع من تأثره الشخصي، وليس مرده إلى استنفاد الأفكار والموضوعات. يتجلى من رد فعل عادل كامل التأثير التحفيزي/التثبيطي للجوائز بصفة عامة والجوائز الأدبية على وجه الخصوص في إثراء الحركة الأدبية.

لكن ماذا لو فاز عادل كامل بالجائزة؟ أغلب الظن أنه كان سيواصل الكتابة ويواظب عليها، ولن يقلع عن الكتابة في سنٍ مبكرة، لا سيَّما أنه كان يحفز صديقه المقرب -صاحب نوبل لاحقًا- على متابعة دربه، وبالرغم من أنه أصغر بعامين من محفوظ، إذ تخرج محفوظ في كلية الآداب قسم الفلسفة سنة 1934، وتخرج عادل كامل في كلية الحقوق سنة 1936، لكنه حرص على الرعاية الأدبية لصديقه، ما يعكس اهتمامًا داخليًا في نفسه بالأدب، وفي الوقت ذاته شعور جامح بعزة نفس خدشتها لجنة الجائزة، لم يجد علاجًا لها سوى اعتزال ملعب الكتابة.
كثيرًا ما يجدر بالمرء أن يتبنى سياسة النفس الطويل، وألا يعوِّل على الجوائز -مع أهميتها ماديًا ومعنويًا- لأنها لا تنظر بتجرد للأعمال، والنفس البشرية لا تخلو من أهواء وميول، وهنا نتذكر قصة تدور في فلك آلية توزيع الجوائز؛ فقد تغيرت علاقة مصطفى أمين بصديقه موسى صبري، وانتقد صبري في بعض مقالاته خروج الفنانة سهير البابلي عن النص على خشبة المسرح، واستخدامها ألفاظًا نابية لا تليق بالمسرح؛ فوجدها أمين فرصة سانحة للرد على صبري، وحازت سهير البابلي جائزة "مصطفى وعلي أمين للصحافة"!


وعلى سبيل الاستطراد في هذا الموضوع؛ فقد شنت الجمهورية حملة ضارية على توفيق الحكيم، واتهمه أحمد رشدي صالح باقتبس كتابه "حمار الحكيم" من كتاب -بالاسم نفسه- للشاعر والأديب الإسباني خوان رامون خيمينيز (1881 – 1958)، وردًا على هذه الحملة؛ كرم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الحكيم ومنحه وسامًا! هذه ومضة سريعة لخط سير بعض الجوائز، ولا يصح التعميم في هذا الأمر؛ فكل تعميمٍ خاطئ بما فيها هذا التعميم.

ونعود إلى ما استطردنا عنه فنقول إن عودة التلواني لساحة الكتابة مردها إلى جائزة، وإن إقلاع صاحب مليم الأكبر عن ملعب الأدب بسبب جائزة، ولكن هل الجوائز المحرك الأوحد لشهية الأديب؟ قد يكون إقبال التلواني على الكتابة عقب الفوز بالجائزة مقبولًا، بل إنه منطقي جدًا، لكن ماذا عن موقف رجلٍ ذاق حلاوة الجائزة من قبل، وكان بوسعه أن يتمتم في سره "خيرها في غيرها" ويواصل الكتابة، الإجابة عن هذا السؤال حملها عادل كامل معه إلى قبره.

ونظرًا لأن البعض يقتل نفسه حسرة ويعض أصابعه غيظًا وكمدًا؛ فإن إعادة التأكيد على أهمية مواصلة الطريق تبدو ضرورية، ولو أن نجيب محفوظ توقف عن الكتابة إثر رفض روايته "السراب" سنة 1949، لما قدم الثلاثية ومن بعدها الأعمال الخالدة، ولما فاز بعد 39 سنة من هذا التاريخ بجازة نوبل للأدب. الإصرار على متابعة الدرب مفيدة، ولذلك قالوا "طول الأجل يبلغ الأمل"، وصدق إيليا أبو ماضي (لا تقنطنَّ من النجاح لعثرةٍ/ ما لا يُنالُ اليوم يُدركُ في غد).

ولعل سائلًا يسأل بعد أن يمهد لسؤاله بترويسة منطقية: إن كان عادل كامل ونجيب محفوظ صديقين حميمين، وعضوين أساسيين في شلة الحرافيش، أليس من المنطقي أن يتأثر محفوظ بموقف صديقه؟ أو بشكلٍ آخر ألم يستشعر محفوظ في لحظة ما أن الأدب لا قيمة له في مجتمعٍ يعاني الأمرين؟! والجواب عن هذا السؤال يمكننا أن نستشفه من فلسفة محفوظ، وقد يأتينا على لسان إيليا أبي ماضي (لو كان يحصد زرعه كل امرئ/ لم تُخلق الدنيا ولم تتجدَّدِ)؛ فلذلك عدم فوزه بالمركز الأول سنة 1943 عن رواية "كفاح طيبة"، ورفض روايته "السراب" سنة 1949 ليس نهاية الكون، وهو لم يكتب ليحصد الجوائز في المقام الأول، بل يكتب ليعبر عن آمال الناس وآلامهم، وليخلد ذكره في دنيا الأدب إذ إنه (بالذكر يحيا المرء بعد مماته/فانهض إلى الذكر الجميل وخلِّد).

وقد يعيد المرء سؤاله بلهجة أخرى فيقول: إنك لم تجب عن سؤالي، والتففت عليه وتهربت من الإجابة، وسؤالي واضح لك: هل حدَّث محفوظ نفسه بالتوقف عن الكتابة؟ هنا يكون الجواب و"الفم المليان" نعم قد كان ذلك، لكن لأسباب لا تمت للجوائز الأدبية بصلة، لكنه توقف ثلاث مرات؛ الأولى سنة 1952 بعد أن فرغ من كتابة الثلاثية، وكانت لديه قائمة موضوعات ليكتب عنها، إلا أن الرغبة انعدمت، وعاد للكتابة بأول أعمال مرحلته الأدبية الثالثة، والمعروفة بالمرحلة الرمزية أو الفلسفية، مع اختلاف تسمية النقاد لهذه الفترة من أدبه على وجه التحديد.

في هذه الأثناء، كانت قائمة محفوظ تتضمن سبعة موضوعات، سبعة مشاريع محتملة عرضها يومًا على عبد الرحمن الشرقاوي، وأعجبه موضوع عن العتبة الخضراء، يومها كان محفوظ موظفًا بمصلحة الفنون. أما الوقفة الثانية فكانت بعد نكسة يونيو/حزيران 1967 إذ الرغبة متأججة والانفعال في عنفوانه، في حين غابت الموضوعات عن ذهنه؛ فكان يبدأ ولا يدري كيف ينتهي. المرة الثالثة جاءت بعد نسائم أكتوبر/تشرين الأول 1973، ولم تزد عن عامٍ واحد، وكان يتردد في خاطره توقف الشاعر الفرنسي آرثر رامبو عن الكتابة في سن 22 سنة، ولم يتخيل محفوظ نفسه بعيدًا عن الكتابة يومًا وهو على قيد الحياة.

وقد تسأل سؤالًا تغمز به في قناة الإجابة الأخيرة، وتقول بصوت متهكم: فلماذا اتجه محفوظ إلى السيناريو إن كانت الكتابة حبه الأبدي؟! يجيبك محفوظ بنفسه وهو يعرض عليك قصته مع السيناريو من طأطأ لسلام عليكم، ومبدأ القصة أن فؤاد نويرة، وهو ابن الصالحية التابعة لمركز فاقوس بالشرقية، كانت أسرته قد انتقلت من الصالحية إلى العباسية بالقاهرة، وتعرف إلى محفوظ في بواكير الشباب، ثم دخل نويرة عالم الفن، وفي بعض الأيام قال لمحفوظ إن صلاح أبو سيف يريد مقابلته. التقى الرجلان في شركة تلحمي السينمائية، وقال أبو سيف إنه قرأ رواية "عبث الأقدار" ويثق أن من كتبها يمكنه أن يجيد كتابة السيناريو، وبعد تردد وافق محفوظ بعد تعهد أبي سيف أن يعلمه بل "يشرِّبه الصنعة".

كان "عنترة وعبلة" باكورة أعمال محفوظ في عالم السيناريو، ومن بواعث موافقته على هذا المجال أن صلاح أبو سيف كان مقلًا؛ فكان يخرج عملًا واحدًا سنويًا، فضلًا عن أنه يعمل صيفًا وقت استراحة محفوظ إثر إنجاز أعماله شتاءً، وقد تعوَّد على ذلك بسبب حساسية العين الصيفية؛ فكانت فرصة للإفادة المادية من فصل الصيف، واقترح عليه صلاح أبو سيف أن يملي السيناريو على كمال عطية؛ ليحافظ على عينيه من الإجهاد صيفًا.

رفض محفوظ العمل مع المخرجين، واكتفى بالتعامل مع صلاح أبو سيف؛ للأسباب المذكورة أعلاه وحتى لا تأخذه كتابة السيناريو عن ميدانه الإبداعي الأول، ولو أن كتابة السيناريو حالت بينه وبين الرواية والقصة؛ لترك السيناريو دون تردد وفق ما أكده لي بنفسه، ثم أضاف أنه لم يدخل دنيا السيناريو باندماج إلا في سنوات الكف -أو اليأس الأدبي كما يطيب له أن يسميها- التي أعقبت الثلاثية، لدرجة أنه سجل نفسه في النقابة "كاتب سيناريو"، وعندها وافق على التعامل مع أي مخرج يعرض عليه فرصة.

سنة 1959، عُيِّن محفوظ مديرًا عامًا للرقابة على المصنفات الأدبية، في هذه الأثناء كان متعاقدًا على سبعة سيناريوهات، اضطر لإلغاء التعاقد حتى لا يقال إنه يتخذ من منصبه وسيلة للتربُّح، وطوى صفحة كتابة السيناريو بعدما أنجز 30 عملًا للسينما المصرية، لم يكتب خلالها سيناريوهات للأفلام المأخوذة عن قصصه أو رواياته، بل كان يكتب سيناريوهات قصص آخرين أمثال إحسان عبد القدوس وأمين يوسف غراب وغيرهما.