ما بعد سقوط الديكتاتور

ما بعد سقوط الديكتاتور

31 أكتوبر 2019
+ الخط -
يشير عنوان التدوينة إلى المرحلة السياسية التي تلي سقوط الديكتاتور المستبد، الذي يمكن أن يكون ملكاً أو رئيساً انتخب بشكل من الأشكال، أو حاكماً عسكرياً قادته الدبابة للجلوس على كرسي الحكم.

لكن الوضع السياسي لما بعد السقوط لا يمكن أن يدرس وينظر إليه معزولاً عن مجموعة من العوامل السياسية والاجتماعية والفكرية والزمانية، التي تتطلب من الباحث فيها مزيداً من التدقيق ومحاولة التوفيق فيما بين هذه العوامل. فالسقوط يسائلنا عن السبب والمسبب والكيفية والنتيجة المرتبطة كلها بزمان معين، قد يكون مناسباً أو بالعكس، يؤدي إلى استمرار الحكم الديكتاتوري، سواء القديم أو مثيل له، يكون دونه أو معادلاً له أو حتى أشد منه استبداداً.

دعونا لا نتفاءل كثيراً بمقولة إرادة الشعوب، التي مفادها أن الشعوب إذا كانت لها إرادة، فلا أحد يستطيع الوقوف أمامها، مهما كانت قوته أو قسوته أو سطوته. فهي كمقولة إلهاء الشعوب أو تجويعها يساعد على سهولة انقيادها. قد تنجح مع شعوب دون أخرى، وفي زمن دون آخر، وفي وضع سياسي دون آخر.


قد تبدو هذه النظرة تشاؤمية أكثر مما ينبغي، لكن دعونا نعود سريعاً بضع سنوات إلى الوراء. بدأت الحكاية مع نظام قمعي بتونس الخضراء، يحظى بدعم غربي كبير. كان أسلوب إلهاء الشعب ناجحاً جداً، مع قمع للحريات العامة وتضييق على الإسلاميين، واليساريين، والمعارضين على العموم. وكان مجرد التفكير في سقوط هذا النظام يعتبر شبه مستحيل، بالنظر إلى القبضة الحديدية التي يسير بها نظام بن علي البوليسي البلاد، مع الأخذ بالاعتبار مستوى السياحة، وجو الاستثمار المشجع، والتبعية المطلقة للمستعمر السابق فرنسا.

ثم كان حدث بسيط في منطقة نائية من البلد، بمثابة القشة التي قصمت ظهر النظام الديكتاتوري لابن علي، التي كشفت عن هشاشة نظامه وعوره السياسي والإيديولوجي ومنظومته الأمنية بمختلف أجهزتها. كان هروب الديكتاتور فضيحة شهدها العالم بأسره، وكان الأصدقاء يتملصون ممن كان حليفاً بالأمس، تجنباً للحرج السياسي الداخلي، وليس مراعاة للشعب التونسي (الثائر). وهي عبرة لكل الشعوب، حتى لا نقول لكل حاكم ديكتاتوري، فهم لا يعتبرون بأحد على كل حال.

كان ما وقع بتونس، مثل انهيار جليدي، يبدأ بتكسر بسيط لينتهي الأمر بانهيار الجبل بأكمله. لم يتكسر الجليد، ولم ينهر الجبل، بل انهارت أنظمة وتفككت دول وفشلت أخرى ودمرت أوطان، وتشتتت شعوبنا في الآفاق، وابتلع البحر الآلاف، وافتضح أمر الأوروبيين مع نازحي الحرب، وتنكر الجيران لحقوق الجار، ويجيش الشباب العابث، واللاهث وراء تحقيق الذات من أجل الجهاد المقدس بزعمهم، وتصفية الحسابات القديمة في أوطان الغير، والغزوات الصليبية المتأخرة، والتحكم في تجارة المخدرات والأسلحة التي تباع على قارعة الطرقات، وتسليح تنظيمات إرهابية بهدف خلق توازن في أوضاع المنطقة، ومنع كل نهضة اقتصادية وصناعية وتعليمية في الهلال الخصيب أو الأناضول، وبروز شياطين حرب كان همهم قبل سنوات التطاول في البنيان وسباقات الهجن والشعر النبطي، فخاضوا حروباً فاشلة بالوكالة عن صاحب التغريدات الأشقر المتحامق، ونهبت الثروات والمآثر التاريخية التي تشهد على عراقة الزمن والمكان وظلم الجغرافيا والإنسان، واستعان الجميع بالقوى العظمى بقصد الحماية، وللحماية ثمن باهظ يثقل ميزانية البلدان، لكن لا ضير، وكان الرابح الكبير صناع الأسلحة وتجارها، لكن الرابح الحقيقي هو الموتى الذين لم يشهدوا قبح السياسة والسلطة وانخداع الجميع بما سمي الربيع العربي، الذي طبخ في ردهات القوى العظمى، لنتلقفه يمنة ويسرة، حتى لم يسلم صغيرنا ولا كبيرنا بالتفاؤل الأعمى بمستقبلنا الذي لا يد لنا فيه وفي توجيهه.

اجتاح الانهيار خمسة من الديكتاتوريين، بداية من بن علي، مروراً بحسني مبارك، ثم القذافي فعلي عبد الله صالح، وأخيراً البشير وبوتفليقة. منهم من قتل، ومنهم من توفي، ومنهم من تحصل على رعاية طبية مريحة، ومنهم من لا يزال يدمر ما بقي من بلده بمساعدة الدب الروسي، الطامع في الحفاظ على حليف يطل على البحر المتوسط. واتخذ الأميركيون من شمال سورية موطئ قدم لهم مع (حلفائهم) من المجموعات الكردية المسلحة. احتج الأوروبيون كعادتهم بالعمل الخيري ومساعدة اللاجئين وتقديم الخدمات الطبية، لأغراض التجسس والتحريض والدعم اللوجيستي والتسليح بطبيعة الحال. أما العرب، فهاموا في كل واد، وهم يقولون ما لا يفعلون، سوى شعارات على منصات التواصل الاجتماعي تدعم الثورة؛ أي ثورة.

أما بعض الدول العربية، فقد تطوعت (مجبرة)، على دفع تكاليف تدمير الأوطان الثائرة على حكامها الديكتاتوريين جداً.

وبعد أزيد من 8 سنوات عجاف، ما زلنا لم نتجاوز مرحلة محاولة فهم ما جرى. فبينما كان المخطط التوغلي في بلداننا العربية قد وضع رهن التنفيذ منذ أمد بعيد، ما زلنا نحبو في مجال السياسة الدولية محاولين الإمساك بشعرة أمل في أن ما جرى في الربيع العربي ثورة شعبية مجيدة، وليست مخططات غربية تسعى لزعزعة المنطقة، وطيّ ملف القضية الفلسطينية باعتبارها أقدم مأساة إنسانية لشعب بأكمله، ثم التحكم بحقول الطاقة في أفق الصراع الدولي المتزايد على النفوذ في مناطق وجود البترول واليورانيوم والذهب.

فمتى ما كانت الثورات غير نابعة من رغبة حقيقية في الانعتاق من ربقة العبودية لفرد أو أسرة أو حزب، فليس لنا إلا أن ننتظر دمار الأوطان وشتاتاً للمواطنين في بقاع العالم، في المخيمات ومراكز الإيواء، أو ورقة انتخابية رابحة لليمينيين المتطرفين في أوروبا، أو في أعماق البحار والمحيطات، أو جثثاً منتفخة على شواطئ المتوسط، أو في أحسن الأحوال لاجئين حتى تستقر بلدانهم الثائرة. فهل تعقلون أن لا ثورة نجحت ولا وطن سلم ولا الديناصور رحل؟
B0ED8355-B2DF-4294-963F-3B4510151DAC
البشير بمكدي

أستاذ تعليم ابتدائي. مهتم بالتاريخ والفكر السياسي.