قصة الكنز الواقع أسفل البنوك

قصة الكنز الواقع أسفل البنوك

21 أكتوبر 2019
+ الخط -
أخيراً وصلت لرئيس البنك شخصياً، شياكة في الحديث والملبس والمكتب، كل شيء حوله مرتب، كما يقول الكتاب، لا توجد أوراق كثيرة على مكتبه، بل فقط جهاز كمبيوتر ولاب توب وعدة تليفونات على جانبه الأيسر، توجد صورة خلفه على الحائط للاقتصادي الوطني البارز طلعت باشا حرب، مظهره يشعرك بالهيبة والوقار وقوة الشخصية، وكيف لا وهو يدير مئات المليارات من أموال المودعين، وبتوقيع من قلمه الفضي اللون الذي يضعه أمامه على عدة أوراق يمكن أن يضع في رصيدك مليار جنيه خلال ساعات، وبقرار منه يمكن أن يحولك من رجل أعمال ملء السمع والبصر إلى مقترض متعثر تلاحقه القضايا والدائنون أمام المحاكم، هو بنفسه الذي يحمل مسمى وظيفياً هو رئيس مجلس الإدارة ويتمنى وزراء ورجال أعمال كبار وشخصيات عامة وفنانون ونجوم كرة مقابلته والجلوس معه حتى ولو لبضع دقائق.

ورغم كل هذا الوقار، إلا أن رئيس البنك الذي انتزعت منه مقابلة بعد إلحاح دام أياما طوالا كان بسيطاً جداً ومتواضعا معي لأقصى حد رغم أنني لست من كبار العملاء ولا أمتلك حسابا في البنك ولست من بين كبار الصحافيين، رحب بي بحرارة عندما استقبلني على باب مكتبه رغم أن مديرة مكتبه قالت لي بوجه جاد إنه لا يقابل صحافيين، ولا يحبذ الظهور في وسائل الإعلام، ويرفض بشكل قاطع إجراء حوارات صحافية، ولا أعرف لماذا وافق على مقابلتك عندما عرضت الأمر عليه، فقلت لها مازحا "إنه دعاء الأم"، فانتزعت منها بسمة خفيفة.

شجعتني بساطة رئيس البنك الكبير معي على أن أطرح عليه أسئلتي الساذجة التي كنت أبحث لها عن إجابة في بداية حياتي في الصحافة الاقتصادية، وأولها أين تخفي البنوك أموالها، أين الخزن الحديدية الضخمة التي تستوعب كل أموال المودعين، أين الغرف المليئة بالنقود، وكيف توفر البنوك حراسة لكل هذه المليارات، خاصة عند نقلها من الفروع للمقر الرئيسي؟ وهل لدى البنك مطبعة لطباعة النقود أو البنكنوت كما يسمونه داخل القطاع المصرفي، أم أن هذه ميزة يتمتع بها البنك المركزي لوحده؟


ابتسم رئيس البنك الذي قارب عمره الستين بسمة صافية عندما طرحت عليه أسئلتي دفعة واحدة وكأنها عبء أردت التخلص منه، وقال لي "لا أحب الكلام الكثير، تريد أن تعرف، لنكن عمليين، تعالَ معي".

أخذني مباشرة في جولة داخل أروقة البنك للتعرف على الأنشطة التي يقوم بها، وأسماء كبار مديري الإدارات، هذا الأستاذ فلان مدير قطاع الائتمان، وذاك فلان مسؤول الاستثمار وأسواق المال، وهؤلاء مديري الأوراق المالية، الخدمات الإلكترونية وبطاقات الائتمان، خطابات الضمان، القطاع الخارجي، التجارة الخارجية، الاعتمادات المستندية، القطاع القانوني، قطاع الشركات، العلاقات العامة والمسؤولية الاجتماعية، شهادات الادخار والأوعية الادخارية، المشروعات الصغيرة والمتوسطة، الالتزام والحوكمة، الفروع والمعاملات الإسلامية، السويفت.

رأسي "ساحت" من هذه المسميات التي أسمع بها لأول مرة، فعقب تعريفي على كل مدير قطاع أو إدارة كان رئيس البنك يشرح لي الأنشطة التابعة له، وما الذي تقدمه إدارته لعملاء البنك، سواء كانوا مدخرين أو مستثمرين، ببساطة عمل لي "بريزينتيشن" Presentation عملي وعلى أرض الواقع.

وما هي إلا لحظات حتى هبطنا إلى بدروم البنك، وأنا أخطو على السلالم الرخامية قلت لنفسي "هنا مغارة علي بابا، هنا الكنوز والمليارات والذهب والفضة والمعادن، هنا الأسهم والسندات، هنا يخفي البنك أمواله عن أعين الناس".

في البدروم وجدت عشرات الموظفين الذين يعملون كالنحلة، كل يؤدي دوره بإتقان، فلا مجال لخطأ في العمل المصرفي ولو واحد في المائة، لأن الخطأ سيترتب عليه ضياع أموال المودعين، وربما ضياع صفقة من مستثمر "جامبو" يمكن للبنك أن يربح مئات الملايين في حال التعامل معه.

ومن غرفة لأخرى ننتقل إلى أن وصلنا لغرفة ضخمة توجد فيها خزن حديدية صغيرة، ساعتها قال لي رئيس البنك وهو يشير للخزن "إنه يتم تأجيرها للعملاء لحفظ كل ما هو ثمين فيها، ذهب، فضة، عقود وأوراق مهمة، وأحيانا دولارات ونقد أجنبي، لا يتم فتح الخزنة إلا بمعرفة العميل ولا يجوز لموظف البنك فتحها رغم امتلاك البنك نسخة من المفاتيح".

وبينما ننتقل من غرفة لأخرى ومن إدارة لإدارة، والسؤال لم يغادر ذهني "أين تخفي البنوك أموالها التي تستقبلها من ملايين المدخرين؟"، هل مثلا يتم ملء غرفة بالنقود، وعندما تمتلئ يتم الانتقال لغرفة أخرى، وفي حال رغبة العميل في استرداد أمواله كيف يصل البنك إلى أموال هذا المودع تحديدا أم يتم خلط كل الودائع؟

عدت لأطرح السؤال على رئيس البنك، فأشار إلى عدة خزن حديدية موجودة في غرف الصرافين ومدير الفرع، وقال "هنا يرقد جزء من أموال المودعين"، فقلت له "إنها خزن صغيرة"، فقال "هذا كل ما يمتلكه البنك من سيولة نقدية"، استغربت وقلت له إن بيانات البنك المالية تقول إن لديه ودائع تتجاوز 300 مليار جنيه، فأين كل هذه المليارات، فرد علي قائلا "تعالَ نشرب الشاي في مكتبي وسأجيب عن هذا السؤال الذي يشغلك".

في مكتبه الوثير الواقع وسط القاهرة، لخبط رئيس البنك رأسي ربما للمرة السابعة، فقال إن البنوك لا تحوز كل الأموال التي تحصل عليها من المودعين دفعة واحدة، قلت له: كيف؟ أخذني لصالة البنك للمرة الثانية، وقال "سأريك بشكل عملي"، أشار إلى مودع ينتظر دوره لإيداع أموال كانت في حوزته، وقال إننا نستقبل الأموال من ذلك المودع، وفي الغرفة المجاورة، أشار إلى رجل أعمال يجلس ويحتسي القهوة مع مدير الائتمان، وقال إننا نعطي أموال آلاف المودعين لهذا المستثمر ليؤسس مشروعات صناعية، زراعية، تجارية، سياحية، ثم أشار لآخر قائلا "هذا صاحب شركة مقاولات تقدم بطلب للحصول على قرض بقيمة 500 مليون جنيه لإقامة مشروع سكني ضخم، هنا يجمع البنك هذا المبلغ من المودعين ليعطيهم لهذا المستثمر العقاري"، وبعد ربع ساعة سيأتيني مستثمر كبير يعمل في قطاع السياحة والفندقة ويرغب في الحصول على قرض بقيمة مليار جنيه لإقامة فندقين بالغردقة وشرم الشيخ.

ببساطة البنك سمسار وليس مخزناً للأموال، نحصل على الودائع من المدخرين بسعر فائدة محدد ونعيد منحها للمستثمر بسعر فائدة أكبر والفارق بين السعرين يؤول للبنك ليغطي مصروفاته ما بين مرتبات موظفين وأرباح للمساهمين وتغطية للديون المتعثرة في حال عجز المستثمر عن سداد الديون المستحقة عليه.

واصل رئيس البنك كلامه "مثلا.. الحكومة هي أكبر مقترض من القطاع المصرفي، فهي تقترض عشرات المليارات من البنوك شهرياً لسداد رواتب موظفي الجهاز الإداري بالدولة وتمويل التجارة الخارجية للدولة من عمليات استيراد قمح وذرة وسكر وزيوت وصابون وغيرها، وتغطية دعم البنزين والسولار والغاز ورغيف الخبز وغيره، وعندما تأتي للحكومة حصيلة من الضرائب ورسوم قناة السويس وأرباح الشركات الحكومية وغيرها يتم سداد الأموال للبنوك التي تتم إعادة ضخها في الاقتصاد مرة أخرى وتوجيهها مباشرة لتمويل إقامة مشروعات وغيره، يعني الأموال لا تظل راكدة في البنوك، والكنز الواقع أسفل البنوك في مخيلة البعض لا وجود له.

بالطبع، لا نمنح رجال الأعمال والحكومة والشركات كل ما نحصل عليه من أموال المودعين. هكذا قال لي رئيس البنك من وراء نظاراته الشفافة، فهناك جزء يتم الاحتفاظ به في شكل سيولة نقدية حتى إذا ما أراد مودع استرداد أمواله أو حل موعد وديعته هنا يجد سيولته حاضرة، وهناك نسبة من أموال المودعين تذهب للإيداع لدى البنك المركزي تحت اسم احتياطي نقدي، وهي بمثابة ضمانة مقابل توفير البنك المركزي تأمين لأموال المودعين، فإذا تعثر البنك أو أفلس وانهار، هنا يقوم البنك المركزي بصرف أموال المودعين كاملة دون نقصان، وفي حال وجود سيولة نقدية زائدة للبنك لم تتم إعادة إقراضها، هنا يتم إيداعها لدى البنك المركزي مقابل الحصول على سعر فائدة، وفي حال وجود سيولة زائدة لدى البنك بالعملات الأجنبية هنا يمكن تصديرها وإيداعها في بنوك خارجية مقابل الحصول على سعر فائدة.

هل عرفت الآن أين تخبئ البنوك أموالها وقبلها سر الكنز الواقع أسفل البنوك، سألني رئيس البنك وأنا غارق في كل هذه المعلومات التي زودني بها للتو. هنا أومأت برأسي قائلا "نعم الآن فهمت أين تخفي البنوك أموال مودعيها".

دلالات

مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، مسؤول قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".