الأب الذي ضيع أسرته بالقروض

الأب الذي ضيع أسرته بالقروض

30 يناير 2019
+ الخط -
أب يعول أسرة مكونة من أم وأربعة أطفال، موارد الأب المالية محدودة جدا، فهو لا يملك سوى راتبه الشهري الذي يتقاضاه من المصلحة الحكومية التي يعمل بها منذ 30 سنة، الراتب بالكاد يكفي مصروفات الأسرة، وأحيانا كثيرة يستلف الأب ممن حوله لتغطية مصروفات باقي الشهر، الابن الأكبر في مرحلة الثانوية العامة، والباقي موزعون بين مراحل التعليم المختلفة.

وبينما امتحانات الابن الأكبر على الأبواب، جاءت الأب فكرة وصفها بالعبقرية، وهي ضرورة إرسال ابنه إلى الخارج لاستكمال تعليمه، الأب يريد لابنه أن يكون مثل ابن رجل الأعمال الثري صاحب شركة العقارات التي تنتشر إعلاناتها في كل مكان وتمتلك آلاف الأفدنة وعشرات المشروعات، لا أحد أفضل من أحد.. كلنا أولاد تسعة شهور، كما قال الأب لمن حوله.

اختار الأب لابنه تحديدا جامعة هارفارد للالتحاق بها، وهي الجامعة التي سمع عنها لأول مرة من مذيع بالتلفزيون عندما قال إن الوزير فلان أحد خريجيها وإنها من أعرق الجامعات الأميركية، هو يريد لابنه أن يدرس الهندسة في هذه الجامعة.

وبسرعة بدأت الفكرة تشعل خياله وتختمر في عقله، أبلغ بها زوجته، فنظرت إليه في ذهول ولم تفهم شيئاً مما قاله، تعاملت الزوجة مع كلام الأب على أنه مزحة أو تسلية يخفف بها عن نفسه من كثرة الهموم والديون، أو أنها أمنية تشبه تلك الأماني الكثيرة التي يتمناها وأولاها أن يكون ثرياً حتى يشتري سيارة "فيراري" ويرتدي ساعة سويسرية ويسكن في العاصمة الجديدة.


بدأ الأب رحلة إلحاق ابنه بجامعة هارفارد، ضغط على زوجته لبيع عدة قطع من الذهب والحلي التي بحوزتها وحوزة ابنتيها كانتا للزمن، وطلب منها الضغط على أسرتها لمساعدتها ماليا، استنجد بأصدقائه وزملائه في العمل للاقتراض منهم، طلب "سلفة" من العمل بضمان الراتب، كان يدخر جزءا من المال في البنك سحبه بالكامل، وتقدم بطلب للبنك لاقتراض مبلغ بضمان الراتب فوافق البنك.

تجمع لدى الأب مبلغ معقول من المال، سارع لاستخراج جواز سفر له ولابنه لأنه سيسافر معه حتى لا يتركه لوحده في الغربة، خاصة في الأيام الأولى من الدراسة، حجز تذاكر الطيران قبل أن يحصل على تأشيرة من السفارة الأميركية بالقاهرة، اشترى لابنه ولنفسه عدداً من البدل وربطات العنق والأحذية الفاخرة من محل يبيع الماركات العالمية بمنطقة مصر الجديدة، كما اشترى لابنه ساعة سويسرية باهظة الثمن حتى يكون مثل ابن رجل الأعمال الذي يدرس بجامعة هارفارد.

السفارة رفضت منح الاب والابن تأشيرة سفر، وفي نفس اليوم نفدت الأموال التي بحوزة الأب بسرعة قبل أن يرسل ابنه للتعلم في الخارج، المفاجأة أن الابن رسب في امتحانات الثانوية العامة بسبب الضغط النفسي الشديد الذي كان يعاني منه من سلوكيات الأب الغريبة وضغوطه المستمرة عليه للحصول على درجات عالية لدراسة الهندسة في هارفارد على غير رغبته، فالابن كان يرغب في دراسة إدارة الأعمال بجامعة القاهرة، لأنه يريد أن يكون مثل خاله رجل الأعمال الناجح.

عندما كان الابن يمر على المقهى الذي كان يجلس عليه والده ليلا وهو راجع من أحد الدروس الخصوصية كان يسمع الأب وهو يقول لأصحابه بصوت عالٍ إن ابني سيدرس الهندسة في جامعة هارفارد التي تخرج منها العديد من رؤساء الدول، من بينهم رؤساء للولايات المتحدة، مثل فرانكلين روزفلت، جون كيندي، باراك أوباما، جورج بوش الابن.

كنت أخجل من ذلك، هكذا يقول الابن لأصدقائه، ويضيف "أخجل أكثر عندما يخطئ في أسماء رؤساء أميركا خريجي هارفارد، إذ كان يعتبر بيل جيتس واحداً من رؤساء أميركا السابقين".

وضاعت أحلام الأب الذي أدخل الأسرة في متاهات من الديون والقروض، فتم الحجز على الراتب، وطلب الرجل تسوية معاشه لكي يسدد جزءا من ديونه فلم تكف. الأب باع الشقة الصغيرة التي كانت تستر الأسرة، والأم باتت لا تجد حتى القليل من المال لإطعام أولادها والإنفاق على تعليمهم أو الذهاب بالبنت الصغيرة إلى الطبيب لعلاجها من مرض في الصدر تعاني منه، الأسرة ضاعت وباتت في الشارع، والأب ضاع بسبب الديون الكثيرة التي تراكمت عليه.

دلالات

مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، مسؤول قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".