دراسة جدوى الثورة

دراسة جدوى الثورة

15 يناير 2019
+ الخط -
خرج علينا عمدة كفر الفلاسفة بتصريح يطعن نظريات العالم الاقتصادية في القلب، ويعيد صياغة قوانين السوق التجاري ويرسخ لأمثال ظننا أنها قد انقرضت بعد الطفرة العلمية والتكنولوجية المبهرة هذه الأيام؛ أمثال من قبيل "الجنيه غلب الكارنيه" و"العلم في الراس مش في الكراس" و"معاك قرش تساوي قرش" حتى أنني تصورته المعلم في مسرحية "السكرتير الفني" وهو يصرخ في الخوجة أفندي اعتراضا على منح ابنه صفرا واحدا وأنه لم يجعلها اثنين أو ثلاثة، ويسخر منه غاضبا حين يخبره أن الأرض كروية تلف حول نفسها قائلا "تلف ولا ننزلش زرع بصل يعني الصبح تبقى دكاني في باب الشعرية أدور عليها المغرب ألاقيها في روض الفرج يا عالم ياهو"!..

قاموا بانقلاب 30 يونيو ليتقوا أن يعيدهم حزب إسلامي إلى الوراء، فجاؤونا بـ "حضرة العمدة" ليعيدنا إلى عصور ما قبل التاريخ!

ومن قبل أسهب العمدة في تصريحاته عن التعليم فقال: "ويعمل إيه التعليم في وطن ضايع" و"يا ترى المصريين هايتحملوا كل الفلوس المتاحة أن توضع للتعليم فقط وتهمل بقية الأمور".

جناب العمدة لا يعلي من قيمة التعليم كما يظن أهل البلد، إنه لا يريد أن يسمح للتعليم أن يحتل مكانته الطبيعية في صدارة أهداف الأمة. يعلم العمدة جيدا أنه ليضمن شعبا خانعا خاضعا فعليه أن يبقيه جاهلا، ولا نتعجب لو خرج علينا في أحد الأيام ليخبرنا أن "البنت ملهاش غير بيتها وجوزها" و"الولد أحسن له يتعلم صنعة، هما يعني اللي اتعلموا عملوا بالتعليم إيه".


يقول جنابه: "وفق تقديري في مصر لو مشيت بدراسات الجدوى وجعلتها العامل الحاسم في حل المسائل كنا هنحقق 20 إلى 25 بالمائة فقط مما حققناه"؛ هل تتخيلون حجم الكارثة التي نعيشها؟ الرجل يسير أمور مصر دون تخطيط!

القروض، والمفاعل النووي المزعوم، وبيع الجزر، وفرض الضرائب، والتخلي عن نهر النيل، والتنازل عن آبار الغاز، وخطط التعليم والصحة، وحماية الأمن القومي، كل ذلك يتم دون دراسة جدوى؟ لا أظن!

يسير جنابه وفق دراسة جدوى مرتبة ومحكمة بشكل دقيق؛ فلا يمكن بأي حال أن يكون كل هذا الخراب الذي حل بمصر غير ممنهج وغير مخطط له. هو يعلم جيدا ماذا يفعل وكيف يهدم، ومتى يقيم حفلات واحتفاليات ومؤتمرات ماجنة لتجميل وجهه القبيح.

وفي المقابل تتعالى أصوات الثوار استنكارا لهذا الذي ينكر استخدام دراسات الجدوى لتنفيذ مشروعات الدولة، في حين أنهم حتى الآن وبعد خمس سنوات كاملة لم يقوموا بدراسة جدوى واحدة لثورة يحلمون بها.

يتساءل الإعلاميون بعد كل هذا الخراب الذي فاق خسائر مصر منذ عهد عبد الناصر وحتى حكم مبارك، لماذا لا يثور الناس؟.. وأسألهم أنا: وكيف لهم أن يثوروا؟

هل تطلبون من أناس عاديين أن يتحركوا وحدهم دون قيادة، وخاصة بعد أن دجنتهم القيادات واحدة تلو الأخرى حتى زرعت في قلوبهم الخوف؟ هل تطلبون منهم أن يقوموا بما هو واجب النخب؟

لو أن تلك النخب تعكف على دراسة جدوى صادقة لعرفت أن بذور الثورات منذ نشأتها لا يغرسها إلا محتل طامع، ولا يعقل أن يكون الداء هو الدواء، فكيف تتوقع أن يكون الحل في سلاح صدره عدوك ويعرف كل أسراره! يجب على هذه النخب إما أن تنفض عنها الكسل الفكري وتبحث خارج الصندوق عن حل آخر، أو أن تبحث كيف تعدل السلاح لتجعل طلقاته ترتد في صدر اللئام.

لو أنها تهتم بعمل دراسة جدوى لاكتشفت أنها أهملت من البداية تعريف الناس قواعد اللعبة بصدق، هم لعبوا معها في المرة الأولى اجتهادا وليس علما، وها هي تكرر نفس الخطأ.

إن المفاهيم والنظريات والتاريخ أهم بكثير في هذه المرحلة من مجرد التأجيج المستمر فأنت تشحن جمهورا عاجزا خائفا مقهورا مجهلا فماذا تنتظر أن يفعل؟ علموهم أولا ما الثورة؟ وما أصلها؟ وما تاريخها؟ وما تاريخنا؟ علموهم كيف حطت رحالنا في هذا المستنقع؟ علموهم الأخلاق السياسية النظيفة وكيف أنها يمكن أن تنفذ وسط عالم قذر إذا صدقت النوايا. علموهم ولا تتعالوا وتنعتوهم بعدم القدرة على فهم الأمور الجسام فالعامة تفهم بقلبها ما قد لا تدركه بعقلها. هؤلاء إذا ما اهتدوا، ستنكشف الظلمة وسيجد أهل الثورة أن طريق الحل طالما كان تحت أرجلهم ولكنهم لم يبصروه.

يتخبط العامة الذين أيدوا الثورة ومازالوا، فأمواج الثوار المتلاطمة أنهكتهم، فما عادوا يعلمون من يصدقون ومن يكذبون؛ يتشبثون بحلم الثورة لأنهم لا يعرفون غيره، يبحثون لديهم عن الحلول وعن الحكمة، فلتفهم النخبة ذلك ولتكن على قدر المسؤولية.

نحن أحوج ما نكون الآن إلى دراسة جدوى صادقة لمشروع حل ليس بالضرورة أن يكون ثورة. الأمر يحتاج لأن تتوقف النخبة عن الانجرار خلف نفس الأساليب التي صدرها لهم المنقلب المتشح بالثورة؛ يحتاجون إلى متخصصين لصناعة اصطفاف داخلي يجمع من لا ينافق ولم يخن، ومنظرين يواجهون كل فرية بدليل وبرهان، ونصيحتي لهم هي أن ينسفوا إعلامهم القديم.
7048540C-B765-4399-A999-CB7869F215E2
رانيا مصطفى
باحثة مهتمة بالتاريخ والسياسة والأدب والعلوم الإنسانية. تقول: كل فكرة فى مقال ماهى إلا رسالة فى زجاجة ملقاة فى بحر تتقاذفها أمواج الأيام حتى تصل إلى من يهمه الأمر