أن تكون حسن الخلق

أن تكون حسن الخلق

02 فبراير 2021
+ الخط -

يرتبط عبير سيرة الإنسان بحسن خُلُقه. تطورت نظرة الناس لِحَسَنِ الخلق، فقدروه أولا، ثم أشفقوا عليه، ثم بخسوا حقه، إلى أن اعتبروه رمزا للفشل فرأوه ساذجا وضعيفا، أما اليوم، فقد صنفوه كزائر للأرض من كوكب آخر، أو مسافر في كبسولة خيال انفصلت عن صاروخ كارتوني خارج حيز مجال جاذبية البشر.

عندما تنظر حولك تجد مقاييس حسن الخلق قد انقلبت، حتى أن الإنسان السوي حين ينتقد نقيصة تفرمه جيوش باطل جرارة تزجره صارخة فيه هل جننت؟

إن لهذه الدنيا انعكاسا آخر فى عيون من ينبي تكوينه عن جميل الخصال؛ فأن تكون حسن الخلق يعني: أن ترى الحياة محدودة، تفضي لأخرى لانهائية، تحاول أن تستثمر كل لحظة فيها لتترك أثرا عَطِرا يتنسمه من مروا بك أو خلالك، فتكون سر ابتسامة صغيرة ترتسم على وجوههم، ودعوات بالرحمة تخرج من بين شفاههم في لحظة شرود، أن لا تبهرك زخارف الدنيا كثيرا، فجميلها يسعدك، لكنه لا يسلب لبك، لأنك تعلم أنه لا اكتمال لشيء فيها.

أن تحرص على ألا تنسيك بدائل الدنيا روعة الطبيعة فتعطل حواسك، فلا تشعر بملمس رمال تحت قدميك، ولا تملأ عينيك زرقة بحر وسماء، ولا يشجي أذنيك حديث طيور، ولا يغذي روحك شذا زهرة، أن تقدم ما لست مطالبا به، لا لشيء إلا لأنك تجد في نفسك شفقة تستدعي كل حواسك لتساعد أو تشجع أو تعدل مسارا.

لكل شيء زكاة حتى الشعور، فجميل الإحساس صدقة، ورب كلمة طيبة تزيل صدأ قسوة ألمت بالقلوب

أن تربي نفسك فلا تستصغر إثما حتى لا يعظم، فقلبك كالطفل الصغير، عامله برفق كي لا ينفر، وبحزم حتى لا يتمادى؛ اشتر له الحلوى عندما يحسن، وخاصمه إن عصى، أن تحمي غيرك من نوبات غضبك، فإن لم تستطع فاكتف بتنفيذ حكم النفي خارج حدودك، أن تنظر إلى روحك طويلا، تشغلك عيوبها فلا تجد وقتا لتقصي زلات من حولك، أن تمد يدك بالمساعدة ولو قَصُرت، اعتذارا لله عن عجز وضعف قوة وقلة حيلة.

أن تعتذر ولا يأخذك الكبر لتحيل الحق باطلا لتستريح من عناء تأنيب الضمير على حساب من ظلمت مرتين، مرة بخطئك ومرة بالافتراء عليه، أن تغفر وتتناسى، ولا تعاتب إلا مجبرا، وإن عجز المخطئ عن أن إيجاد مهرب منك فساعده، فليس من النبل أن تستمتع بانكساره، اتركه يفر بما ظن أنه غنيمة إلى أن يكتشف أنه ما سرق منك سوى حفنة تراب.

أن تتبسم في وجه عدوك قبل صديقك، بسمة تنبع من صفاء روحك لا تعكس بالضرورة حبا أو كرها، فبسمتك هي خاتمك الملكي، وبصمتك التي تطبعها في القلوب، أن ترسم الود بألوان الطيبة الزاهية، بكلمة، أو نظرة، أو اهتمام، أو ابتسامة، أن يأمن جانبك كل من يمر بدربك، فيعلم أنه لن يجد فيك هوة يسقط فيها ولا قطارا يصطدم به.

ألا تغتر بأفضليتك في بعض الأمور، واذكر نسوة المدينة اللاتي لُمن امرأة العزيز فقطعن أيديهن عند أول نظرة، أن يرى فيك الناس ملاذا وقت حاجتهم إليك ويوقنون أنهم لن يجدوا بعد انقضائها منك لوما حين الانصراف عنك، ولا منا بما قدمت، أن تتعفف عن أحب الأشياء لروحك إن لم تكن لك ولو كانت فيها حياة قلبك.

أن تفيض نظرة عينك رقيا وطهرا وحياء، فالعين مرآة القلب، ونوافذ منها نطلع على الأرواح، فنرى نورا يضيء وجداننا، أويباغتنا منها سهم أسود مسموم يكاد يقتلنا لو لم يتغمدنا الله برحمته.

أن تكون حازما، قويا، متعقلا دون إسراف، وضيفا خفيفا حيثما حللت، أن تحمل على لسانك جميل الكلم لمحدثيك وإن كانت بهم غلظة، فجميل اللفظ يأسر القلوب، أن تترفع عن كل موطن من شأنه أن يحط من قدرك أو يضعك في موطن شبهة.

أن يفيض صدقك ليملأ كل فعالك فتكون فنارا يرسل أشعته ليهدي سفن التائهين في بحار الكذب، أن تكون راضيا بما قُسم لك، ذاكرا لذنبك، عالما أن ما ابتليت به من شر فإنه من نفسك، وما رُزقت من خير فهو من الله، ألا يأخذك الكبر بعد نعم أسبغها الله عليك فتنسى كيف كنت، فتصيب غيرك بتعاليك في سويداء كرامته دون أن تشعر.

أن تعطي الناس أقدارها، ولا تجد في نفسك غلا لمن هو أفضل منك، وزع الألقاب والكُنى وأسماء الدلال، لا تتسلق أسوار حتى المقربين، واستئذن ثلاثا أو ابتعد؛ وكن آخر من يسحب يده من العلاقات، أن تعرف أفضال الناس عليك فتشكرهم وتحفظها وتحكي للآخرين عنها.
أن ترد غيبة من وقع فريسة نمامين وإن كان عدوك، عوّد لسانك، سيعتاد.

أن تحسن الظن بخالقك ولو سدت كل السبل، فدائما يكون هناك مخرج لم تقع عليه عيناك وأنت تراجع خرائط ممرات حياتك، ولا تيأس مهما طال بك السفر، فربك الرحيم قد يجعل لك في كل ميناء وطنا، فاخرج من ضيق رغباتك إلى واسع علمه تعالى، أن ترى في الناس كل أحبابك، فكبيرهم أبوك وأمك، وشبابهم إخوتك، وصغارهم أبناؤك، فتغلب رحمتك استياءك.

ألا تكون بخيل المشاعر فلا تغدقها إلا حين احتياج أو طلب، لكل شيء زكاة حتى الشعور، فجميل الإحساس صدقة، ورب كلمة طيبة تزيل صدأ قسوة ألمت بالقلوب، أن تكون حسن الخلق يعني أن تحيا بجمال حيث أوجدك الله، فخالقك لن ينبتك إلا حيث يعلم أنك ستزهر. 

قد تكون عجبا حين تكون استثناء، فتنبت في قلب صخر أو جماد أو صحراء؛ قد تكون مثار سخرية كسفينة نوح، ولكن تذكر أنها التي عصمت من الطوفان، ورست على الجبل، ونجت حينما غرق الجميع.

7048540C-B765-4399-A999-CB7869F215E2
رانيا مصطفى
باحثة مهتمة بالتاريخ والسياسة والأدب والعلوم الإنسانية. تقول: كل فكرة فى مقال ماهى إلا رسالة فى زجاجة ملقاة فى بحر تتقاذفها أمواج الأيام حتى تصل إلى من يهمه الأمر