إشكالية أبشِر..

إشكالية أبشِر..

20 فبراير 2018
+ الخط -
إن كانت لك عند بعضهم حاجة، وجاء في جوابه "أبشِر"، فإن الذهن ينصرف إلى أن التنفيذ "في المشمش"! كثيرًا ما نسمع الكلمة، ولكن ما يتبعها من أفعال لا يتوافق مع المعنى الحقيقي المراد منها. في الصحيحين أن أعرابيًا دخل على المصطفى وعنده أبو موسى الأشعري وبلال - رضي الله عنهما - فقال الأعرابي: يا رسول الله ألا تُنجز لي ما وعدتني؟ قال النبي: أبشِر؛ فقال الأعرابي: أكثرتَ عليّ من أبشِر.. إلخ.

قولُ أبشِر من السنة النبوية، إلا أن ما تقتضيه السنة يختلف جملة وتفصيلًا عما نقصده باستخدام نفس الكلمة؛ فالثقافة العربية السائدة اليوم تُحيل معنى "أبشر" إلى حالة بعيدة كل البعد عن المراد الأصلي. الثقافة المصرية قريبة في توظيفها لعبارة "إن شاء الله" بنفس استخدام "أبشر" في منطقة الخليج العربي.


استعمال أبشِر أصبح بمثابة إشكالية؛ فالمعاني فيها تضيع بين "ابقى قابلني"، "لما يشيب الغراب"، "لما يبيض الديك"، وغيرها من الأمور البعيدة الاحتمال.

هذا التضارب بين المنطوق والمقصود تترتب عليه جفوة الأذن للكلمة، وتصحبها مشاعر سلبية تعزز في النفس كراهية تلك البشرى! استعمالنا للكلمات يشكِّل وعي الأجيال القادمة؛ هب أن بيتًا يطلب الابن من أبيه شيئًا، ويسمع الإجابة بكلمةٍ واحدة "أبشِر" أو بعبارة "إن شاء الله"، ثم يشفع الوالد هذه الإجابة بالتنفيذ.

هنا يتربى الولد على الربط الصحيح بين الكلمة وما يترتب عليها من سلوكيات. هل يستوي هذا البيت بآخر ارتبط في ذهن أفراده سماعهم كلمة "أبشِر" مقرونة بإهمال طلبهم أو التغافل المتعمَّد عنه؛ فتنشأ على كراهية سماع اللفظة!

"أبشِر" كالسحاب وتنفيذ الطلب أو الرجاء هو المطر ويعزز قيمة "أبشِر" في النفوس، ولا خير في سحابٍ لا يُمطِر. قديمًا أدرك الأعرابي في البادية قيمة الإنجاز الذي يتبع "أبشِر"؛ فحين طلب من أحدهم قضاء مسألةٍ، وسمع جوابه: "أبشِر"، قال الأعرابي: إن من وعد قضى المسألة وإن كثُرت، والمطْلُ من غير عسرٍ آفة الجود.

لا تُبَغِّض السُّنة إلى النَّاس، ولا تتشبث بقول "أبشِر" لمجرد أنها أضحت لازمة كلامية تقال في كل موضع، ضع الكلمة في نصابها الصحيح. لا تقل "أبشِر" لمجرد التهرُّب من موقفٍ حرج أو من باب الاستخفاف، فلعلَّك سمعت عن أقوامٍ عاتبهم الله تعالى لقولهم ما لا يفعلونه، وقد "كَبُرَ مَقْتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون".

علِّم ولدك أن هذه لفظة نبوية، ويجب عليه أن ينزه الكلمة عما يُشينها أو يقلل من قدرها في أسماع الناس وقلوبهم، وليفعل ذلك تأدُّبًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباعًا لهديه الشريف. ثق أن استعمال أبشِر على النحو الذي يشوِّه قدرها ويمزق مدلولها مقياس للتباين الكبير بين ما ينبغي أن يكون وبين ما نفعله، وهذا البون ليس في صالحنا بأي حال.

يفهم الكثيرون كلمة "أبشِر" في غير سياقها بالمرة؛ فهم يستعملونها بنفس طريقة استعمال الأدوية التي لا تحتاج لوصفة طبية، ولسان حالهم: إن لم تنفع، فلن تضر! قد يكون الإسراف في "أبشِر" في غير مكانها، هو الباعث على ذيوع المثل الشعبي القائل: "حلو اللسان قليل الإحسان".

إننا جميعًا بحاجة ماسة لإعادة التفكير قبل أن نعطي وعودًا لن ننفذها؛ فوعد الحر دين واجب السداد، ومن خالفت أقواله أفعالَه تحولت أفعالُه أفعى له. "أبشِر"، "إن شاء الله"، "يصير خير" من الكلمات التي تحمل معاني طيبة إلا أن استعمالنا لها بطريقة عكسية لمرادها؛ فأساء الناس فهمها وكرهوا سماعها. التناغُم بين القول والفعل مسؤوليتنا، وعندها تختفي إشكالية أبشِر.