سعيد عدنان... في الكتابةِ وما يجاورها

سعيد عدنان... في الكتابةِ وما يجاورها

21 ديسمبر 2018
+ الخط -
كنتُ بعد، لم أحضَر الدرسَ الجامعيّ، أزاول الكتابةَ على عَجلةٍ، مأخوذاً بسعادةِ النشرِ، كانت الكتابات تنشرُ في صحفٍ عراقيّة وعربيّة، ولهذا النشر أثره في اتساع مساحة الوهم وتَصديقه. كانت الكتابة قراءة في منجزات أصادفها وأعجب بها، دون أن أتريثَ في التعبيرِ عن هذا الإعجاب، أو أحذر، بشيء من الصبرِ، فخَّ الحماسةِ، كنتُ مأخوذاً بالمنجزات الفكريّة، الفلسفية منها على وجهٍ خاصٍ، وهي منجزات كُتبت بلغةٍ خاصةٍ، لغة ذات بلاغةٍ نخبويةٍ، غارقة في المصطلحات وأساليب غير أدبيّة، بعضها جاءَ مترجماً، وبعضها الآخر بلسانٍ عربيّ غير مبينٍ، وإلى جوارِ هذا أقرأ الأدبَ، غير أن تأثيره في الكتابةِ يكادُ يعدم، ومضيتُ على هذا الأمرِ حتى نُشرتْ كتابةٌ في جريدةِ "أفكار جامعيّة"، كانت كتابةُ عن "المجاز في الدرس البلاغيّ القديم"، وهي كتابةٌ، ذات منحى فكريّ، تقترحُ فهماً آخر للمجاز، غير أنها تجيء في إطارِ ما أنشرُ في الصحفِ، بلغةٍ محتشدةٍ بالمصطلحات، والأقوال المقتبسة. تسلّمتُ الجريدةَ وإذا أطالعُ مقالةً في صفحتها الأخيرة، مقالة أدبيّة رفيعة عن الشاعرِ إبراهيم الوائلي، قرأتها مندهشاً دون أن أعرفَ كاتَبها، قرأتُ في أعلى الصفحةِ، أ. د سعيد عدنان، وكانت مصادفةً جميلةً، درساً مبكراً في الأناة، في تجاوزِ الوهمِ والخروجِ من فخّ الحماسةِ، في الحذرِ من الكتابةِ على عَجلةٍ.

بعدها تعرفتُ على الأستاذ الدكتور سعيد عدنان، أول ما تعرفتُ عليه في الصحفِ والمجلات، ثم في كتبه التي تُعنى عناية بالغة بفنِ المقالةِ وآفاقها، بتاريخها القريب وكتّابها، بتنوعها وتحولاتها، كتب أخرى تُعنى بالفكرِ وما يجاوره، وكانَ هذا درساً ثانياً في التريّثِ.

قد دخلَ الجامعةَ العراقيّةَ من بابها الوسيع، مُلمّاً بالأدبِ العربيّ وما يتصلُ به، شعراً ونثراً، القديم منه والجديد، مُطّلعاً بتاريخه، زاولَ الدراسة الجامعيّة بسمو وذكاء نادرين، درسَ الماجستير وكتبَ في الاتجاهات الفلسفية في النقد الأدبيّ، ومضى مع درسه في الدُكتوراه حتى إذا اكتملَ الدرسُ، شرعَ يكتبُ في الشعرِ والفكرِ عند العربِ، وعنده الأدب لغة في أعالي ذُراها، صرفاً ونحواً وبلاغة، وهو العالِم بها قواعدَ وأساليبَ، تأتي في كتاباته طيّعةً دانية، تمتعُ وتُفيد، وقلما جاءت لغةٌ في كتابةٍ كما جاءت في كتاباته عمقاً وبياناً.

ثم كتبَ المقالةَ الأدبيّةَ، وكانت على منزلةٍ رفيعةٍ من فنِ المقالةِ، معرّفاً بسير وشخصيات وأدوار، مُعالِجاً ما يتصلُ بقضايا الأدب، والمجتمع، والتعليم، كتبَ عن نُقّاد مَثيل طه حسين، وزكي نجيب محمود، وإحسان عباس، وشكري عياد، وحسين مروة، ولويس عوض، وعبد الإله أحمد، وعن مترجمين مَثيل فؤاد زكريا، وعن شعراء مَثيل بدوي الجبل، ويوسف توفيق عوّاد، وعبد العزيز المقالح.

وكتبَ عن قضايا التعليم، وكانَ من أقدر الكتّابِ على النفاذِ إلى مشكلاتها ومعالجتها، وهو الأستاذ الأكاديميّ المُتمرّس، فكتبَ عن التقاليدِ الجامعيّة، وعن مقومات التعليم وأساسه. وقد أحبَّ العربيّة وكتبَ عن أهمّيّتها في التفكيرِ القَوِيم وما يتصلُ به، عن العربيةِ في مَيدان العلم.
وقبل هذا كلّه، حانَ له أن يكتب عن أستاذٍ أصيلٍ، وهو الدكتور علي جواد الطاهر، وكانَ قريباً من السيرةِ والمُنجزِ، فألّفَ كتَاباً "علي جواد الطاهر الناقد المقالي"، وكتبَ عن أستاذه مقالة من أروع ما كتب عنه بوصفه مُعلّماً، وهو الأستاذ الذي صاحبه، صحبة متصلة بلا انقطاع، يقولُ عن صحبته معه: "صحبت أستاذي علي جواد الطاهر مدة عشرين سنة متصلة من تشرين الأول 1976 حتى تشرين الأول 1996 هي من خير سني العمر، لم انقطع عنه فيها، ورأيته في قاعة الدرس وفي أروقة الكلية وفي محافل الأدب وفي بيته فإذا به هو هو قولاً وسلوكاً ليس بين العلانية والسر مخالفة عنده، يحب الخير حباً صادقاً ويصنعه ثم ينساه! يحب الناس كل الناس ولا يقربك منه إلا العمل الصالح، ولا يجزي السيئة إلا بالحسنة ! لم أسمعه على طول الصحبة وقربي منه يذكر أحداً بسوء، فإذا ذُكر في مجلسه أحد ممن ناله بشيء من الشنآن وأراد أحد الحاضرين أن يقع فيه صرف مجرى الكلام إلى قضية أخرى ! كان منصرفاً إلى الجانب المشرق في الحياة من أجل أن يزيده إشراقاً".

استقامت له المقالة الأدبيّة على ما أحسن ما تستقيم، وقد مضى بها خطوات جديدة حتى اتسع أفقُها، وجدّ أسلوبُها، فهو مِن ألمَع مَن كتبَ المقالة الأدبيّة وأعلى شأنها، وربّما هو المقالي الأخير في العالَم العربيّ، بعد أن طوت المقالة الأدبيّة صفحتها، كما تَساءلَ في مقالةٍ له عن المقالةِ الأدبيّة وآفاقها يقول: "أتكون المقالة الأدبيّة قد طوت صفحتها؟! فإن تكن؛ فقد خسر الأدب ضرباً رفيعاً من الكتابة!".

مضت سنون على متابعتي له، لقيته مَرّةً في مناقشةٍ جامعية، كان يَرأس لجنتها، وكانَ لحضوره مَهابةٌ في النفوسِ، ولوقَاره منزلَة في التعليم، وقد جرت اللغةُ على لسانه مجرى عَذباً، وهو على نهجه القويم في الإلقاء كما في الكتابة، حتى يكاد يُعدم الفرق بينهما، تحدّثَ عن الكتابةِ الأدبيّة وما يجاورها، عن طَرائقَ الإجادة فيها، وإلى اليوم لم تنضب مُتعةُ ذاك الحديث..
وأنّى لها أن تنضب!

8EB0669B-37C7-444B-8ED3-0CCEFB98AE3E
أسامة غالي

كاتب عراقي ورئيس تحرير مجلة الثقافة العراقية، نشر مقالات عدة في صحف عراقية وعربية.