عراقيون على درب خاشقجي

عراقيون على درب خاشقجي

22 أكتوبر 2018
+ الخط -
شغلت حادثة مقتل الصحافي السعودي المغدور جمال خاشقجي الأجواء الإعلامية العربية، ولم يكن العراق خارجها، بل كان داخلها، ومساهماً وباحثاً عن تفاصيل الواقعة الغامضة والكارثية، فمنذ دخول خاشقجي إلى قنصلية بلاده في إسطنبول وحتى إعلان وفاته بشجار، يتحدث العراقيون وكأن هذا الرجل عراقي من البصرة أو الأنبار أو الموصل، وبصراحة، أغلبية المتابعين لما وقع من جُرمٍ على "خاشقجي" لم يقنعهم الاعتراف السعودي بالحادثة، لا سيما أن المملكة كانت قد أنكرت مسبقاً مقتله، ثم قالت إنه خرج من القنصلية بعد إكمال مهمته، وأخيراً وفاته إثر شجار.

ولأن الحوادث الدموية كثيرة في العراق، فخبر مقتل خاشقجي لم يكن غريباً أو صادماً، صدقاً: هو خبرٌ عادي، لأسباب أولها: إن عشرات الجثث تعثر عليها قوات الأمن العراقية في الشوارع يومياً لمواطنين عاديين وناشطين، ناهيك عن الخطف والسلب الذي تنفذه عصابات لا تعرفها الحكومة ولكنها واضحة كالشمس لمن لم يحن موعد قتله بعد.

ثانياً: إن العراقيين باتوا لا يكترثون لما يحدث حولهم، فالنكبات التي مرّت وتمر على بلادهم ثقيلة، وما يحدث عند الجيران العرب أخف بكثير مما يجري لغاية الآن. وحدهم الصحافيون في العراق راجعوا أوراقهم وانتبهوا، وتساءلوا: هل سيقع علينا ما وقع على خاشقجي؟ وماذا سيحدث إن أخذتنا الحرقة على بلادنا وأخطأنا في وصف قائد محلي ما، بوصف لا يرضيه وجماعته؟ وهل سنقتل بعد استدعائنا أم قبل الاستدعاء؟


واقعاً، كثير من الناشطين والصحافيين العراقيين يسكنون وحدهم في بغداد وغيرها من مدن البلاد، من دون أهلهم، فمن استطاع أن يخرج منهم إلى خارج الحدود فقد فاز براحة البال، فلا خطر يهدد أحبابه ولا هم يحزنون، ومن لم يستطع، جرّ أسرته إلى إقليم كرستان الشمالي، فهو أكثر أمناً من باقي المحافظات العراقية، ثم عاد وحيداً، وإن لم يفعل أيّا من ذلك، وقع في امتحان عسير بين الاستمرار في العمل الصحافي، وتركه نظراً للخطر المزمن الذي يلاحقه.

ولا يعرف مدونو العراق والصحافيون والكُتّاب تحديداً خطرهم على السلطات والمتسلطين، مع أن صحف البلاد أقل من أن تكون مقروءة أو مؤثرة، والعاملين في التلفاز لا يشكلّون إرهاباً، كذا الإذاعات المحلية، فكل ما فيها لا يتعدى التعبئة الجماهيرية نحو موضوع ما والتثقيف للمالك أو الحزب الراعي أو الدولة الواهبة.

لماذا تنزعج السلطات والمتسلطون من صحافي لا يملك سوى قلم وعلبة سجائر؟ صحافي يكتب عادة عن حالات سلبية تمارسها عصابات أو مسؤولون من دون المساس بأنواتهم، ويحاول تعديل مسار أمر مهم ومنحرف، في حين يسعى الطرف الآخر بكل سلاحه ورصاصه لقتله وإخفائه، أليس من باب أننا نعيش في الألفية الثالثة، أن يفهم أن من الساسة والقادة أن من يراقبهم وهو مُسالم لا يؤذيهم، يعني أنه مرآتهم التي لم يشتروها، مرآتهم المجانية والصريحة! ولمَ لا تتعامل السلطات والمتسلطون مع هذا المراقب على إنه إضافة جيدة لديمومة سلطتهم وما يراه يمثل نظرة الخارج إليهم، أم أننا لم ندخل الألفية الثالثة بعد؟!

اعتراف السعودية بأن خاشقجي توفي إثر شجار، لا يتناسب مع حجم الكارثة، ولو أنها صمتت وبقيت على مواقفها السابقة عن الواقعة، لبقيت كبيرة في أعين الأخوة السعوديين ممن يثقون بحكومتهم على الأقل، لكن وفي الوقت نفسه، اعترافها بالخطأ وخضوعها، أرحم وأحن بالمقارنة مع ما يجري في العراق، فأصحاب الرأي والشخصيات العامة الذين قتلوا، وممن هم على درب خاشقجي سيقتلون من دون اعتراف حكومي أو عزل مسؤول، وتتحوّل قضيتهم تدريجياً "ضد مجهول"، حتى وإن كان هنالك ما يثبت هوية المنفذين المجرمين، وتبقى على وضعها "ضد مجهول" حتى يتعب الناس من الحديث عن الواقعة وتنسى كأنها لم تكن..

هذا هو ما يتخوّف منه صحافيو العراق. فكم هو مؤذٍ أن تموت وقاتلك معروف للجميع بصيغة مجهول.
D48986A3-505B-4506-BDEE-16218A194107
محمد الباسم

كاتب وصحافي عراقي في عدة مؤسسات محلية وعربية.